حداثة المدينة الفلسطينية قبل نكبتها

حداثة المدينة الفلسطينية قبل نكبتها

14 مايو 2023
من ساحل يافا، نهايات القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

"كانت فلسطين بلدًا كاملًا مكتفيًا بذاته، ميسورًا، جميلًا. بلدًا من أجمل بلاد العالم! أقصد أنَّه بلد لا يقُّل عن إيطاليا، باستثناء أن إيطاليا أكبر. ولكنَّ فلسطين تملك المكونات الأساسية للجَمال"، بهذه الكلمات وصف حازم نسيبة فلسطين في النصف الأول من القرن الماضي. وعلى الرغم مما عُرف عن حداثة فلسطين قبل استعمارها، إلّا أنَّ الحركة الصهيونية ذهبت لتأسيس قاعدتها المعرفية الأولى لتبرير احتلالها البلاد بعد عقود، من خلال وصف فلسطين بأنها: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وأنَّ سكانها ما هم إلّا مجموعة من البدو الرحالة والمتنقلين، وأنّ أرضها جدباء من الناحية الثقافية.

لكنها في الحقيقة كانت بلدًا ينبض بالحياة الحداثية قبل احتلالها عام 1948، وأكبر برهان على وجود شعب يكون حداثته ويبني هويته بعد المرحلة العثمانية في فلسطين هو: المدينة الفلسطينية قبل النكبة. إذ سعى عشرات الباحثين إلى نقد تلك المقولات واعتبروها ساقطة، فقد حاول مؤرخون، كمصطفى مراد الدباغ ووليد ورشيد الخالدي وعادل مناع وسليم تماري وجوني منصور وغيرهم، وصف الحياة في فلسطين قبل النكبة من خلال التركيز على الحياة الثقافية والفنية والفكرية والصناعية والاجتماعية، حيث كانت في فلسطين مسارح وصحف ومجلات وإذاعات وعمل إعلامي متكامل، وكان قبل عام 1948 أكثر من 40% من المجتمع الفلسطيني العربي مستقراً في المدن.

فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد تطبيق الإصلاحات العثمانية المعروفة بالتنظيمات، كانت تنمو مدن فلسطين بتسارع ملحوظ مع تنامي مكانتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وازدياد عدد سكانها وتغيّر أنماط المعيشة فيها. كما بدأت تعصف التغيرات بمدينة القدس العثمانية التي بدأت تتوسّع عمرانيًا خارج أسوار المدينة مع تشكيل بلدية القدس كثاني بلدية أُنشئت في الدولة العثمانية بعد إسطنبول.

بلدية القدس ثاني بلدية أُنشئت في الدولة العثمانية بعد إسطنبول

بدأت ثورة الطباعة والنشر في فلسطين في أواخر الحقبة العثمانية، وتطورت على أبعاد صناعية في النصف الأول من القرن العشرين، وقد رافق هذه الثورة اعتماد التقنيات العصرية، ونماء التربية العلمانية، وانتشار القراءة، والنمو الحضري السريع. فبين 1908 - 1914، أُسّست 32 صحيفة ومجلة في فلسطين.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أدت المدارس الروسية الأرثوذكسية مزدوجة اللغات ومراكز تدريب المدرّسين في فلسطين دورًا مهمًا في دفع النهضة الثقافية في البلاد. وبالنتيجة، كانت هذه المدارس هي بين الأفضل في فلسطين بإسهامها في اليقظة الثقافية الوطنية، حيث كانت أعمال خليل بيدس، وروحي الخالدي، وخليل السكاكيني، ثورة تربوية وثقافية تحديثية مدنيّة في نهاية الحقبة العثمانية، كما أسهب في ذلك المؤرخ نور مصالحة في كتابه "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ".

وفي سنة 1905، ربطت الدولة العثمانية مدينة حيفا بالخط الحديدي الحجازي الذي كان يُستعمل لنقل الحجّاج إلى مكة، فغدت المدينة ميناءً مهمًا ومركزًا للنقليات في المنطقة. ذلك عدا تطورها في القرن الثامن عشر على يد "الظاهر عمر"، حيث سعى إلى توسيع حيفا ومنطقتها الساحلية وتحصينها. ومع نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، كانت حيفا قد تحوّلت إلى مركز صناعي تتركّز فيه شركات تجارية عربية كثيرة تُتاجر بالتبغ، والإسمنت، والطحين، والزيوت.

أما زراعيًا، وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت كميات كبيرة من الشعير المزروع في جنوب فلسطين تُصدَّر عبر ميناء غزة إلى بريطانيا لمصانع البيرة، وكان معظم البرتقال المصدر من يافا يُرسل إلى ليفربول ليُباع في الأسواق البريطانية.

بين 1908-1914، أُسّست 32 صحيفة ومجلة في فلسطين

وعلى صعيد التقنيات الحديثة، فقد افتتح أول استديو للتصوير الفوتوغرافي في فلسطين عام 1885 على يد المصور الفلسطيني الأرمني غارابيد غريغوريان، وكان إبراهيم حسن سرحان (البعض يختلف على ذلك ويزعم أن المصوّر كان جمال الأصفر) أوّل فلسطيني قام بتصوير فيلم متحرك يوثق زيارة ولي العهد السعودي الأمير سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين في سنة 1935، ومدته 20 دقيقة. وفي سنة 1945، أُسست أول شركة إنتاج سينمائي فلسطينية في القدس، ومن المؤكد أنه قبل عام 1948 كان قد أُنتجت في فلسطين 7 أفلام.

فنيًا، أسّست في فلسطين عدة دور سينما في مطلع القرن العشرين، كانت الأولى في منطقة شرقي البحر المتوسط. ولعل أشهرها وأفخمها "سينما الحمراء" التي أسّستها "شركة السينما الفلسطينية الوطنية" في يافا في سنة 1936. وعلى مسرحها، قدّم النجوم العرب عروضهم الموسيقية، ومنهم أم كلثوم وفريد الأطرش. وسرعان ما ظهرت دور للسينما مماثلة في كل من القدس وحيفا.

نشأت في فلسطين كذلك تجمّعات موسيقية، كان كل منها يشكّل مصدر إشعاع فنيٍّ يخرج منه موهوبون في التلحين والغناء والعزف، وأبرز هذه التجمعات: "مدرسة تيرّا سانتا"، التي كان يوسف البتروني أستاذًا فيها، وكان له دور بارز في مجال الموسيقى. وكانت هناك "جمعية الشبان المسيحية في القدس"، وكانت في ذلك الوقت المبكر جدًا أهمّ صالة مغلقة لسماع الموسيقى في الوطن العربي بأسره بعد دار الأوبرا في القاهرة. وكانت الإذاعة الفلسطينية (القدس) قد تأسّست عام 1936، وكان أول رئيس للقسم العربي فيها الشاعر إبراهيم طوقان، وتولى من بعده الأديب لبناني الأصل عجاج نويهض. 


إعاقة الاستعمار الاستيطاني للمدينة الفلسطينية

وجد كلٌّ من سليم تماري ومجدي المالكي في كتاب "المدينة الفلسطينية: قضايا في التحولات الحضرية" أنَّ المدينة الفلسطينية قبل النكبة بدأت تنمو وتتشكّل لتكوّن حاضنة لإنجاز المشروع الوطني، فتشكلت مدن مركزية وسطية فيها حياة حضرية، إذ تطوّرت المدن الساحلية سريعًا، ولا سيّما مدينتي حيفا ويافا، كي تشكلا مركزين للصحف والحركة الثقافية، وتجمّعًا للتجار والمصرفيين، وللقرويين المهاجرين، وللعمال الأجيرين، وللمبادرين بالمشاريع الصناعية، ولناشطي النقابات والاتحادات المهنية. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت هاتان المدينتان أهم مدينتين ساحليتين في فلسطين. فقد مثلتا وجهًا جديدًا لحداثة المجتمع الفلسطيني. بينما حافظت مدينة القدس، بفعل مركزها الديني وقداستها، على مكانتها السياسية والسياحية.

فبينما يعزى تطور المدينة في فلسطين وازدهارها إلى الفترة العثمانية المتأخرة، فإن بداية إعاقة هذا التطور تعود إلى فترة الاستعمار البريطاني في فلسطين وما تلاها، وصولًا إلى نكبة سنة 1948، حيث كان من نتائج الاستعمار تدمير المدينة الفلسطينية وطمسها عمرانيًا، والعمل على إسقاطها من الذاكرة الجماعية، فقد دُمرت المؤسسات الفلسطينية بالكامل، وتحوَّل أكثر من نصف الفلسطينيين إلى لاجئين في الشتات، وأُسرلت بعض المدن، كبئر السبع وطبرية وصفد وبيسان، وتحوّل السكان العرب في بعضها الآخر إلى أقلية مقهورة، كما في يافا واللد والرملة وحيفا وعكا.

سعى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي إلى تشويه المدن الفلسطينية وحجز ومصادرة تطورها التاريخي، وتهويدها في مناطق فلسطين المحتلة عام 1948، وفي مدينة القدس، من خلال سياسات مُمنهجة ومساعٍ لإنتاج المدينة الفلسطينية كغيتو في الداخل المحتل، فقبل النكبة عاش في يافا 120 ألف فلسطيني، وبعد النكبة والتهجير والتطهير العرقي بقي فيها قرابة 3900 نسمة، جرى تجميعهم في حي العجمي وبناء جدار شائك حديدي، ومكثوا هناك تحت الحكم العسكري الذي فرضه الاستعمار الاستيطاني، أما حي المنشيّة، فقد سكنه عشرة آلاف نسمة، لكنه دُمّر جزئياً عام النكبة خلال المعارك، وتمَّ هدم الحي بالكامل في الستينيات.

إسرائيل شوّهت القرية الفلسطينية وحوّلتها إلى أحياء فقر

تتمثل آليات السيطرة بموجب هذا النظام الاستيطاني في تجزئة الفلسطينيين جغرافيًا واجتماعيًا وسياسيًا من خلال عزل التجمعات الفلسطينية بعضها عن بعض في ما يشبه الغيتوات، وإخضاعها للحكم العسكري وللرقابة الصارمة، وفرض رقابة على المدن والأرياف، وتفتيت الحيّز المكاني، ونقل بعض السكان قسريًا إلى أماكن محدّدة أحيانًا، وتعزيز تبعية الفلسطينيين لـ"الأغلبية اليهودية" وللاقتصاد الإسرائيلي، واستخدام مكثف لجهاز التعليم في أسرلة الفلسطينيين داخل مناطق فلسطين المحتلة عام 1948.

وقد وصف عزمي بشارة في كتابه "الخطاب السياسي المبتور" أن إسرائيل شوّهت القرية الفلسطينية وحوّلتها إلى أحياء فقر وفقدت مزاياها كقرية، والمدينة الفلسطينية سُرقت وفقدت خصائصها كمدينة أيضًا، وهو ما خلق حالة من التشوّه على مستوى الهوية الفلسطينية في الداخل المُحتل.

فيما مناطق فلسطين المحتلة عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة) جرى تحويلها إلى سجون كبرى، فالأولى أصبحت سجنًا مفتوحًا، فيما الثاني، أي قطاع غزة، أصبح سجنًا مشدد الحراسة، على حدِّ تعبير إيلان بابيه في كتابه "أكبر سجن على الأرض".

* باحث من فلسطين

 

المساهمون