ثقافة فلسطين 2021: في إعادة ابتكار القُدرة على المواجهة

ثقافة فلسطين 2021: في إعادة ابتكار القُدرة على المواجهة

08 يناير 2022
"قصيدة"، كمال بُلاطه، طباعة بالحرير (2018/ جزء من العمل)
+ الخط -

بدا المشهد الثقافي في فلسطين في 2021 استثنائياً في التعامل مع واقعه السياسي والاجتماعي تحت الاحتلال. إذ يُمكن القَوْل إنّ شعور القُدرة، والمواجهة، كانا السِمة الأبرز لعامٍ شكّلت الأحداث فيه ـ ولا تزال ـ ما يُفترَض أن يكون رافعةً للعمل الثقافي، بعد أعوام من انحصار وظيفة "الثقافة" في مقاومة الانهيار والتعبير عن الواقع. بدا أن الناس باتوا أكثر وعياً، بعد تطبيع عددٍ من الدول العربية ثقافياً وسياسياً، واختبارهم حالة من النكوص الاجتماعي والسياسي، وممارسات السلطة الفلسطينية وفساد مؤسّساتها، بالإضافة إلى فشل الاحتلال في أسْرَلة الفلسطينيين الذين بقوا بعد النكبة (1948) في أراضيهم.

كان رفْض الترحيل من حيّ الشيخ جرّاح، ربيعَ العام الماضي، الشرارة التي نقلت المواجهة إلى باب العامود وباحات المسجد الأقصى، وصولاً إلى انتفاض أبناء الشعب الفلسطيني على طول الخريطة، يخلعون علم الاستعمار عن أعمدة الشوارع، ويفتحون طرقاً سدّتها الحواجز، بالإضافة لمشهد اللاجئين الفلسطينيين على الحدود اللبنانية والأردنية، ودخول غزّة على خط المواجهة في معركة أُطلق عليها اسم "سيف القُدس"، أرغمت الاحتلال على الانسحاب والاستجابة لتهديدات المقاومة الفلسطينية، لأوّل مرّة. نفّذ الفلسطينيون مواجهة شعبية واسعة، شملت إضراب العاملين في القطاعات التي يحكمها الاحتلال، بالإضافة إلى مقاطعة المنتجات "الإسرائيلية".

برز المشهد الثقافي على نحوٍ مختلف ومشتبك هذه المرّة، إذ رأينا الشعارات المرفوعة ــ خلال الأحداث ــ تُعبّر عن وعيٍ وهَمٍّ جماعي شامل، وأشكالاً ثقافية مختلفة نزلت من المسارح والمعارض المغلقة إلى الشارع، كفنون الرقص والدبكة والأغاني الشعبية التي شاركت فيها الفتيات إلى جانب الشبّان في مساحةٍ جامعة، بالإضافة إلى الرسوم الكاريكاتيرية التي غطّت عدداً من الجدران وحضرت خلال المسيرات، كذلك حضور الشِّعر الذي خُطّ للتعبير عن حالتي الثبات والمواجهة، إلى جانب "آن للنكبة أن تنتهي"، الجملة البليغة التي خُطّت في أكثر من بلدة في اتفاقٍ عفوي تزامناً مع ذكرى النكبة.

شهد 2021 خروجاً بالثقافة والفنون إلى الشوارع

وفي الوقت الذي تخوض فيه قُرى فلسطينية مواجهاتٍ لا تزال مستمرّة، إلى جانب انشغال "مدن الضفّة" في حالة اشتباك مع الاحتلال، منعت "السُّلطة" الانتخابات واغتالت أجهزتها الأمنية الناشط والمُعارض نزار بنات على خلفية الرأي والتعبير، واستمرّت بملاحقة النشطاء، كاستكمالٍ لسنوات من الإقصاء حجبت خلالها مواقع إلكترونية وروايات أدبية، ما أعاد الناس بعد أسابيع من "سيناريو التحرّر" مرّة أخرى إلى مواجهة غير مسبوقة مع السُّلطة، ضمّت طبقات جديدة كان في مقدّمتها أكاديميون وناشطون في الثقافة تعرّضوا للسحل والاعتقال في شوارع رام الله، في مسيرات انخرط فيها نشطاء من القدس والمناطق المحتلّة عام 1948. وفي الشهر الأخير من العام، قمعت أجهزة الأمن شبّاناً على خلفية رفع رايات لفصائل مختلفة خلال استقبال الأسرى المحرّرين وتشييع الشهداء، وختمت العام بقتل الشاب أمير اللدواي من مخيم عقبة جبر في أريحا لرفعه راية خضراء أثناء خروجه لاستقبال أسير محرّر.

وامتدّت "موجة القُدرة"، خلال العام، إلى داخل سجون الاحتلال، بتحرّر ستة أسرى نجحوا في كسر المنظومة الأمنية الاحتلالية قبل أن يُعاد اعتقالهم مرّة أخرى، وإضرابات عن الطعام، ومواجهة عالية الوتيرة مع إدارة سجون الاحتلال.

وعلى جانبٍ آخر، لم تستطع "وزارة الثقافة" في رام الله رغم النوايا الطيبة الانفصال عن حالة الترهل السياسي وضعف الأداء المؤسساتي العام الذي يعتور "الوزارات"، إذ على الرغم من اكتساب الوزارة عاماً جديداً للتحضير من أجل فعاليات "بيت لحم عاصمة الثقافة العربية" بسبب جائحة كورونا، بعدما تبيّن أنّها لم تكن مستعدّة حتى اللحظة الأخيرة في عام انتشار الوباء، إلّا أنّ شعار المناسبة بقي مفتقداً للذوق الفنّي البصريّ، فضلاً عن إهمال المؤسّسة الرسمية لبيت لحم على المستوى الثقافي أصلاً والفهم المتخلف للقائمين على بلدية بيت لحم لمعاني الثقافة (لا تميّز بينها وبين السياحة الدينية)، بالإضافة إلى أن شكل الفعاليات لم يرتقِ لحجم الاسم والمناسبة، واقتصر على بعض العروض الراقصة والمسرحية، وفيلمٍ، ومجموعة من الموادّ الإعلامية التعريفية ببيت لحم وشخصيات بارزة فيها. موقفٌ لا يبتعد كثيراً عن إعلان القدس عاصمةً للثقافة الإسلامية قبل عامين.

الحال المستمر منذ عقد لا يتبدّل فيه شيء سوى في المواجهة وكسر حالة العجز، والتي لم تُترجَم بعد في العمل الأدبي، فبقي الهَمّ السياسي طاغياً على الإنتاج الأدبي الفلسطيني، وكان لافتاً البحث في أصل الحكايات الذي حملته إصدارات العام المنقضي، بالإضافة إلى النقد الاجتماعي، في أعمال سردية مثل "الإنجيل المنحول لزانية المعبد" لأسامة العيسة، التي أثارت جدلاً حول الاسم والطرح، و"أكثر من حُبّ: رسائل محمود شقير وحزامة حبايب"، و"سيّدة الخبز" لنور السبوع، و"النار والعنقاء" بجزأيه الاثنين لوليد سيف، و"غريب" لأنور حامد، و"مأساة كاتب قصّة قصيرة" لإبراهيم نصر الله، و"تاء مربوطة" لخالد غنام، و"سكنة الهجير" لحيدر عوض الله، و"نانا" لخليل ناصيف، و"احتضار عند حافة الذاكرة" لأحمد الحرباوي، و"عالم 9" لمحمد جبعيتي. ولعل من أبرز إصدارات 2021 الروائية "الجنّة المقفلة" لعاطف أبو سيف التي مرّت بدون انتباه كاف لها، وربما حجبها موقع كاتبها كوزير للثقافة وكقيادي في حركة فتح.

لعلّ المثقّفين يجدون أجوبةً عن سؤال التحرّر هذا العام

وصدرت مجموعة أعمال في القصّة القصيرة، منها: "جيجي وأرنب علي" لأمير حمد، و"محاولات للنجاة" لغسان ندّاف، و"اعترافات شهرزاد وقصص أخرى" لمصلح كناعنة، وقصة "لهذا ريّان يمشي هكذا" ليحيى عاشور ورسومات قواريق 
وصدرت للراحل محمد الأسعد ثلاثة كتب: "الفلسطيني يتلو فاتحة القرن الجديد: قراءات في الماضي/ الحاضر" عن "خطوط وظلال"، كما أعادت الدار نفسها طبع كتابه "مستشرقون في علم الآثار: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ" في نسخة جديدة وموسَّعة، وترجمة لرواية "الشياطين" لـ فيودور دوستويفسكي (منشورات "ذات السلاسل").

كما شهد العام توزيع "جائزة محمود درويش" التي تمنحها المؤسّسة التي تحمل اسمه، حيث ذهبت إلى المخرج محمد بكري، والباحث والمؤرّخ الفرنسي هنري لورانس، والفنّان التشكيلي الجزائري رشيد قريشي.

ومن جهة الأعمال الشعرية، فقد رُشّح كتاب "تَعِبَ المعلَّقون" (Exhausted on the Cross بعنوانه الإنكليزي) للزميل نجوان درويش، ضمن القائمة الطويلة لـ"جائزة أفضل كتاب شعري مترجم في أميركا لعام 2022"، كما صدر لدرويش أيضاً ديوان "كُرسيّ على سُور عَكّا" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الفيل) وأصرت داليا طه "سكّان المدينة ر" (الأهلية)، وأصدر غسان زقطان مختارات شعرية من أعماله بعنوان "غرباء بمعاطف خفيفة" (ملتقى الطرق)، كما صدرت مختارات شعرية لعز الدين المناصرة بعنوان "من عِنَبِ الخليل.. إلى كنعانياذا" (العائدون) كان قد اختارها بنفسه قبل رحيله.

وحظي 2021 بدراسات وأبحاث مهمّة، منها ما أصدره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات": "بلاد على أُهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور" لأحمد عزّ الدين أسعد، و"في معنى الأرض" لبلال عوض سلامة، كما نجد حضوراً للدراسات الفلسطينية وعن فلسطين في مجلات "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ومن بينها دراسة طويلة لعزمي بشارة تحت عنوان "استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟" المنشورة في العدد 38 (خريف 2021) من مجلة "عمران". كذلك، أصدرت "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" مجموعة من الكتب في العام الماضي، مثل "مفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية " لعبد الرحيم الشيخ، و"الحركة الطلّابية الفلسطينية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة" لأحمد حنيطي، و"المدينة الفلسطينية: قضايا في التحوّلات الحضرية" لمجموعة مؤلّفين.

بعد عام ثانٍ في ظلّ جائحة كورونا، يُمكننا القول إن شكلاً جديداً ما زال في حيّز التجربة والتوظيف فيما يخص الأنشطة الثقافية، مثل إقامة ندوات وورشات عمل إلكترونية عبر تطبيقي "زووم" والبث المباشر، والحضور على منصّات صوتية بتقنية البودكاست، دون إلغاء دَور الحضور الوجاهي للمعارض واللقاءات التي عقدت.

وتنوّعت أنشطة "جمعيّة الثقافة العربية" في حيفا، من إقامة معرضها كتابها السنوي إلى مهرجانها السنوي أيضاً "مهرجان المدينة"، كما استضافت في نهاية العام "أيّام فلسطين السّينمائيّة" بنسختها الثّامنة، وذلك بعرض أفلام في "المركز الثقافي العربي" بالمدينة. كذلك كسرت ورشة "ديوان أول" التي قدمها الشاعر نجوان درويش بتنظيم من "جمعية الثقافة العربية" رتابة بعض الأنشطة الثقافية المنعقدة، حيث توزّعت على مدار ثمانية شهور بمشاركة شعراء من فلسطين والعالم العربي عبر منصّة "زووم"، وتمحورت لقاءاتها حول بناء المجموعة الشعرية والتحرير الشعري وغيرها من خصوصيات حِرفة الشاعر.

في حين قدّم "المتحف الفلسطيني" في بيرزيت أنشطة ومعارض، من بينها "بلدٌ وحدُّهُ البحرُ"، محطّاتٍ من تاريخ السَّاحل الفلسطيني، حيث ينطلق المعرض من منتصف القرن الثامن عشر ويتوقّف عند عام 1948، مُتيحاً بذلك قراءة مُتجدّدة لحدث النّكبة عبر لحظات تاريخيّة امتدّت على طول مئتَي عامٍ من الزّمن، منوّعاً في طريقة عرضه ومستخدماً تقنيات صوتية ومرئية في عرض المحتوى. وعلى صعيد المعارض الفلسطينية في العالم، لعل أبرزها كان المعرض الاستعادي لأعمال وفكر كمال بُلّاطه (1942 - 2019) الذي أقيم في برلين تحت عنوان "هندسة الضوء".

كان 2021 عام وداعات في الحقل الثقافي، غادرت عالمنا فيها عشرات الأسماء من الكتاب والفنانين والفاعلين الثقافيين، إذ رحل الشاعر والروائي والناقد الأدبي محمد الأسعد في الكويت، والشاعران مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة والروائية والصحافية ليلى الأطرش في عمّان، والأكاديمي والباحث عبد الستار قاسم والشاعرة والباحثة سلافة حجاوي في نابلس، وفي رام الله رحل الكاتب حسن البطل والفنان كريم دبّاح، في قرية بيت جن في الجليل الفلسطيني رحل القاص محمد نفّاع.
مع بداية هذا العام الجديد، لا يزال المثقّفون أمام أسئلة مفتوحة حول طبيعة دورهم في الهَمّ الجماعيّ، وجدوى أدواتهم الثقافية وأولوياتها. ولكنّ المختلف في هذه المرّة أنّ هذه الأسئلة تأتي مترافقةً بشعور المقتدِر على المواجهة، لعلّ المثقّفين يجدون أجوبةً على سؤال التحرّر في 2022.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون