موسيقى ما بعد النكبة... أعراس وخيام ولاجئون وفدائيون في أغنية

موسيقى ما بعد النكبة... أعراس وخيام ولاجئون وفدائيون في أغنية

15 مايو 2023
من تظاهرة مناوئة لتهجير اليهود إلى أرض فلسطين (فرانس برس)
+ الخط -

تُعيد لنا ذكرى النكبة، مع وجود الإنترنت اليوم، دفقاً هائلاً من الذكريات؛ إذ تعج مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تتناول النكبة من زوايا مختلفة، يترُك أصحابها في كثير من الأحيان روابط لأغنيات ثورية، اقترن حضورها بتلك الذكرى الأليمة. صحفٌ تُسِيل حبراً كثيراً عن فلسطين وقضيتها، وفنانون تشكيليون يعيدون نشر لوحاتهم عن النكبة والاحتلال، ليتجلى لنا حنظلة كتوقيع على كل اللوحات. تنطلق الخلافات بعدها حول واقع عربي أصم، وقضية تُنهب أمام أعيننا، كثورات وقضايا إنسانية أخرى، ويختفي كل ما ذكر بعد أيام قليلة على يد الخوارزميات المتحكمة بتلك المواقع، بانتظار استعادتها في ذكراها القادمة.
تبقى الموسيقى والأغاني الأداة الأعم والأوفى والأكثر إحساساً والأصدق باستعادة ذكرى مصحوبة بحماسة، يُعيد ما حصل منذُ زمن غابر، وتوثيقٍ لحدث معين، أو حتى مجرد تعبير لحظي عن الفرح أو الحزن، أو إحدى تجليات الغضب. 
على مستوى الذاكرة الجمعية، تلعب الأغنية دوراً أعمق، تنفجر الأصوات عالياً في الداخل الفلسطيني وخارجه، لتغدو الموسيقى محركاً للجماهير، مضيفةً إلى المقاومة كمفهوم مجرد قيمة رمزية، مع توثيقها لتقلبات وتموجات الزمن والسياسة.
منذ نكبة فلسطين عام 1948، وفقدان الناس بعد تهجيرهم إلى المخيمات عالمهم الواقعي وتفاصيله، كالمنزل والأرض والجيران. انقطع إنتاج السكان الفطري للأغنيات، واختفت عوامل تأسيسها المكانية والزمانية. مع تغير المنزل كمفهوم غريزي يمثل الوطن، واندثار تقويم الفلاح المرتبط بالأرض وزراعتها، لم تعد الأغنية كما في السابق، تعبيراً عن الحب أو تغنياً بجمال الحسناوات أو شجن الفراق أو موسم الحصاد والأعراس، بل أصبحت تساوي، لما لها من قدرة على مقاومة الزمن، سلاحاً لا يستهان به في وجه الاحتلال. 
في البداية، وبعد أن ثبتت الخيمة، بدأ الناس باستعادة الأشعار والأغنيات الفولكلورية، وتضمينها معاني بكائية على الفردوس المفقود وحلم العودة إلى تلك الجنة. يظهر لنا البطل هنا في الشعر المُغنى كما في الرواية، مقتولاً على الحدود بعينيه اللتين ترنوان إلى إرضٍ مات محاولاً الوصول إليها. 
على مستوى أوسع من الأغنية الفولكلورية، وبعد شتات الإذاعات الفلسطينية وتشريد كل من عمل في تلك الإذاعات، من موسيقيين وكتّاب وملحنين في العالم العربي، كإذاعة "هنا القدس"، ثاني إذاعة عربية (تأسست عام 1936)، فقدَ الفلسطيني منبره، بقي وحيداً متخبطاً بين صوت مسروق ومكان غير مألوف، وبطل مقتول على الحدود، يشعر بكل إرهاصات الشتات، هو ذاك المواطن الذي سلخ فيزيائياً عن وطنه وبات يسكنه في خياله، يتطلع إليه شاهراً سلاحه في الحاضر. هذا المزيج بين الحنين والسخط، يمثل صورة بانورامية عن الفرد الفلسطيني، كما عن موسيقاه. 
في اللحظة التي تحول فيها البطل من مقتولٍ على الحدود إلى فدائيٍّ لا يهزم، انطلق أثير إذاعة صوت العاصفة، الإذاعة التي تأسست عام 1968 في الأردن، وأصبحت الصوت الصارخ للفدائي الفلسطيني، وتركت الأبواب مشرعة أمام الملحنين والشعراء الذين قدموا نتاجاً تراكمياً يحكي قصة عقدين من زمن التشرد والقتل والتهجير. تغير شكل الأغنية وبدأ بشكل تدريجي اختفاء الأغنية الفطرية الانطباعية، مقابل الأغنية ذات الكلمات الوطنية والعربية والقومية، وما تتضمنها من مفردات الحرب والرصاص والنار والدبابات.
قد يصعب الحديث عن الموسيقى الفلسطينية بمعزل عن مفهوم الأغنية الملتزمة، التي استذكرت القضية الفلسطينية بعيداً عن تعبوية الأغنية الثورية، أخذت على يد روادها منعطفاً جديداً من حيث اللحن ذو الإيقاع الهادئ، والكلمة الفصيحة التي تستند إلى القصائد بمعناها الكوني، فها هو روجر ووترز في إحدى حفلاته، يستحضر "تكبر تكبر" للشاعر محمود درويش بصوت أميمة خليل كتحية للقضية الفلسطينية، وأحمد قعبور يتماهى بموسيقاه مع معاناة الشعب الفلسطيني وثورته، وريم البنا أيضاً جنباً إلى جنب مع كاميليا جبران تخطتا قيود المكان التي خلقها الاحتلال، وأبو عرب منشد الثورة الذي حمل لقباً أصبح رمزاً لرجولة المناضل الفلسطيني وعنفوانه، حملت أغنياته حنيناً إلى تفاصيل الدار الفلسطيني من بابه إلى شجرة التوت في باحته السماوية.


بعد ثورة التكنولوجيا في التسعينيات، ودخول الحاسوب على كل منزل بغض النظر عن موقعه الجغرافي، وصلت عبر الـ CD أغنيات لفتت نظر الشباب الفلسطيني ولامسته، بعد ركود دام أعواماً طويلة، وواقع حارق فُرضَ على الشباب، ذاك الجيل الذي لم يدخل للسجن الكبير، بل ولد فيه.
على تلك الأقراص المدمجة، وصل الراب وتوسع مفهومه لدى الجيل الجديد بما يتناسب مع لغته. بمعنى أدق، هُضِمَ هذا الفن وتجسد بلغتهم اليومية المعيشة. ومع حالة قحط إنتاجي في الداخل الفلسطيني، وفي غزة تحديداً، وفقدان استوديوهات للتسجيل، ظهر مفهوم تحول غرفة ذاك الشاب إلى استوديو صغير.
ظهرت فرق متأثرة بمغني الراب الشهير توباك بشكل خاص، لما تحمل قصته من معاناة ونهاية تراجيدية، واتصال بالإخاء الذي تخلقه المعاناة بين الشعوب. ذاك الانبهار كان واضحاً على الفرق التي ظهرت في الفيلم الوثائقي Slingshot Hip Hop الصادر عام 2008 للمخرجة جاكلين سلوم. تتابع فيه سلوم صعود فرق الراب الأولى في فلسطين منذ منتصف التسعينيات. في لقطة ذات حساسية عالية، من داخل غرفة نوم/ استوديو تامر نفار، مؤسس فرقة DAM، يروي أن أغنياته تتكون من 30% مما حصلوا عليه من أغاني راب على أقراص مدمجة، و30% من الكتب والأدب، كشعر محمود درويش وروايات غسان كنفاني، وما بقي يأتي من الشارع بما يحمله من لغة وأبعاد رمزية كلها واقع تحت الاحتلال.

يركز الفيلم على صعوبة لقاء فرق الراب التي تبعد مكانياً عن بعضها أقل من 14 كيلومتراً، بسبب الحواجز والتصريحات والتضييق. تتغلغل هذه الفرق في الشارع وتصبح صوت الجيل الجديد، تستمر عروضهم تحت الأرض، ما يثير الانتباه هنا هو الرأي المشترك لكل تلك الفرق حول أهمية الأغنية كفعل مقاوم.
لاحقاً، مع انتشار ثقافة الهيب هوب بمعناها الواسع، وتوسع المشهد العام للراب في العالم العربي، وسهولة الوصول إلى الإنتاجات العالمية، بدأت المشاهد المحلية للراب بالاندماج في محيطها الأوسع. على سبيل المثال: لقراءة مشهد الراب في الأردن، وجب علينا فهم تطور الراب في فلسطين لحضورهما المشترك وتقاربهما المكاني.
في مقابلة للرابر الفلسطيني شب جديد، يروي أن مشروعه الشخصي ليس أكثر من ترويج لشركة "بلاتنم"، التي أسسها مع مجموعة صغيرة من المنتجين الموسيقيين في فلسطين، والخوف الرئيسي من المشاريع الشخصية/ الفردية يكمن في عدم الاستمرارية وفقدان الإنتاج المادي.

في فيلم وثائقي قصير آخر تحت عنوان "تحت أرض فلسطين"، نرى أن تلك المسافة وذاك الجدار الفاصل ما زال حاضراً على أرض فلسطين، لكنه ليس حاجزاً لحفلاتهم التي أيضاً ما زالت تحت الأرض؛ فوجود شركة إنتاج خاصة بهم، ورؤية تناسب مشروعهم، وأدوات فعيلة لتنفيذه، كلها عوامل ساعدتهم على إيصال كلمتهم، تلك الكلمة التي تشبه الرصاص وموجهة لكل الناس، بما تحويها من غرابة وشتائم وفردانية.
على الرغم من اندثار الراب الفلسطيني بتجاربه الأولى، وابتعاده عن المشهد الموسيقي، إلا أنه شكل إرهاصاً لبداية مرحلة جديدة، تجذر فيها الراب وتصدر ونال قبولاً جماهيرياً، متفادياً ما وقع به الرابرز الأوائل، ولا سيما أن شركات الإنتاج حمت استمراريته تحت لوائها، وساهمت في تثبيت المشروع وانطلاقه إلى فضاء أوسع من الداخل الفلسطيني. 
لكل زمن ظروفه وتقلباته وصعوباته، مشاكل الإنتاج أصبحت أقل مع وجود الإنترنت، وللإنترنت خوارزمياته المتقلبة كحال الداخل الفلسطيني، ما أضاف عبئاً على العمل الفني. وكما الأغنيات الفولكلورية والملتزمة، أتى الراب انطلاقاً من الناس ليلامس الناس، ويروي قصصهم ويومياتهم وأحلامهم. الراب اليوم كغيره من الأنواع الموسيقية، مُنتج من هذه البيئة وأصيلٌ فيها وتجلٍّ جديد للشباب الفلسطيني الغاضب.

المساهمون