العراق جناية إيران... ونموذجها الأوضح

العراق جناية إيران... ونموذجها الأوضح

06 مارس 2017
+ الخط -
يصحّ في ما تسبّبت به إيران في العراق، وما تواجهه من مشكلات هناك، المثل "يداكَ أوْكَتا وفُوكَ نَفَخ"، فهي التي استمرت، مع أميركا، في هذا البناء السياسي المضطرب، والذي ينطوي على عوامل أزماته وضعفه؛ فعلى الرغم من المعارك التي تحتدم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الموصل، وعلى الرغم من القلق من التدخُّلات التركية في الشمال، إلا أنَّ تلك المخاطر المشتركة لا تقوى على إسكات الخلافات العميقة بين القوى السياسية الشيعية، في التحالف الشيعي الحاكم، حتى دفعت الأزمة أطرافا عراقية إلى المناداة بالتدويل، ومِن أبرزها الخلافات بين رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، وأنصاره من جهة، والزعيم الشيعي مقتدى الصدر وأنصاره، من الجهة الأخرى، وخلافات أخرى ما بين المالكي ورئيس الوزراء حيدرالعبادي؛ على خلفيَّة الانتخابات المقبلة، وتمثيل حزب الدعوة. وفي المجمل، ثمّة مطالبة حثيثة وجديّة بإصلاح العملية السياسية، والقضاء على الفساد، فيما يتعثّر مشروع "التسوية التاريخية" الهادفة إلى حلِّ جميع مشكلات البلاد السياسية والأمنية، بعد الانتهاء من مرحلة (داعش)، كذلك يقع الخلاف حول التدخُّل في شؤون الدول المجاورة، وفي مقدمتها سورية، وكذلك حول القتال إلى جانب الحوثيين في اليمن، وهو موقف القوى الأقرب إلى إيران، فيما الموقف الرسمي للعبادي أنَّ العراق لا يريد الاشتراك بصراعات إقليمية، قبل كشفه، أخيرا، عن توجيه الطيران العراقي ضربات لمواقع "داعش" داخل الأراضي السورية. وكذلك يرفض هذه التدخلات التيارُ الصدري، وقوى سياسية أخرى غيره.

وفي جديد أزمات العراق، كما نشرت صحيفة "العربي الجديد"، احتدامُ الصراع بين رئيس الوزراء حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي، على ترؤُّس قائمة حزب الدعوة الحاكم في الانتخابات المحلية المقبلة، وتزامن ذلك مع وصول التظاهرات، بقيادة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، ضد مفوضية الانتخابات، إلى بوابات المنطقة الخضراء الحكومية، وسط بغداد؛ ما دعا إيران إلى الطلب من الحكومة العراقية وضع حدّ لموجة التظاهرات المتفاقمة، والإسراع بالاتفاق على اسم الشخص الذي سيقود حزب الدعوة في الانتخابات المقبلة.
إيران قلقة من استمرار التظاهرات، ووصولها إلى المنطقة الخضراء، وهي تضغط على المسؤولين العراقيين لوقفها، قبل أن لا يعود ممكنا السيطرة عليها، وأعضاء ومحتجون في التيار الصدري يتهمون مليشيات عراقية تابعة لإيران بالتورُّط في عملية قتل متظاهرين قرب المنطقة الخضراء في 11 فبراير/ شباط الحالي، هذه التظاهرات التي هي استمرار لحركة الاحتجاج المطالبة بإصلاح سياسي جذري.
تتمحور أسباب الأزمة حول الطائفية السياسية التي توظِّفها إيران، وإحدى مظاهر هذه الأزمة "الحشد الشعبي"، وفي آخر المبادرات العراقية، وهي مبادرة الصدر "الحلول الأولية" مقترحٌ ينصُّ على ضرورة تمكين الجيش العراقي والقوات الأمنية حصراً من مهمة مسك الأرض في المناطق المحرَّرة، والمناطق المتنازع عليها.
مقلقٌ في المشهد العراقي هذا التأزُّم الذي لا تنفكّ تطفو آثارُه على سطح الحياة السياسية، وينعكس على حياة الناس اليومية، ومصالحهم المعيشية، وذلك ما يهم قبل الدخول في تفاصيل الصراعات والمطالبات، ولا تبدو إيران التي يتبجَّح سياسيون بارزون فيها بشمول نفوذها أربع عواصم عربية، في مقدمتها بغداد، مهتمة بتقديم نموذج مشرق، يصلح أن يشجِّع على فتح الأبواب لها، في المنطقة، وأنها، بحكم امتلاكها النفوذ الأكبر إقليميا في العراق، لم تنجح في أن تكون على مسافة واحدة من مكوِّنات الشعب العراقي، بل من القوى الشيعية نفسها، فالمُكْتوون بالواقع العراقي ليسوا من مُكوِّن واحد، أو ليسوا هم السنة، والفساد لا يستثني أحدا، والأزمات وسوء استخدام السلطة لا يمكن أن تتحدَّد في مناطق من البلد دون سواها، وكيف يمكن لإيران أن تكون جاذبةً، ونحن نجد نكوصا من أطرافٍ عراقية، وذلك بترحيبها بالوجود العسكري الأميركي؟! ذلك في الأنبار تحديدا، وهي التي تُصنَّف أول من دعا إلى إطلاق شرارة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي، عقب اجتياح الولايات المتحدة العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، هذا الانقلاب حصل؛ لأن مسؤولين وزعماء قبائل في الأنبار أصبحوا يرون إيران البديل الأكثر مرارةً من أميركا (!).
صحيح أن إيران ليست هي التي صاغت الشكل السياسي لعراق ما بعد صدام، ولا هي التي وضعت أسس الدستور الذي صمَّم نظاما سياسيا قائما على المحاصصة الطائفية، لكنها تتحمل وِزْرًا ليس قليلا فيما آلتْ إليه الأوضاع في العراق، حيث تتأزم المشكلات العامة، والمعيشية، ويتردَّى المستوى الخدماتي، وتتعمق الصراعات والتطاحن الحزبي، والأنكى أن يكون أشد هذا التطاحن في داخل (التحالف الشيعي).
وأضحت مظاهر الفساد تغطي المشهد العراقي، وتتغطّى بالطائفية؛ لتصبح مرضا ملازما، لا يؤمل استئصاله إلا بمعالجة ما يتشبَّث به من رموز طائفية سياسية مَحْميَّة. ولم تكن فضيحة انهيار الجيش العراقي أمام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي أدَّى إلى سقوط الموصل في يده في يونيو/ حزيران 2014، إلا علامة على المدى الذي أوغل إليها الفاسدون، وهم على قمم الهرم في المؤسسة العسكرية والحكومة، ولم تجرِ إجراءات المساءلة والمحاسبة إلى غايتها في تلك القضية، وفي مبادرة الصدر آنفة الذكر(الحلول الأولية) مقترح بضرورة إتمام التحقيق في قضية سقوط الموصل، ومجزرة سبايكر، وإعلان النتائج إلى الرأي العام، بل وغيرها من القضايا.

ويؤشر امتناع تحقق هذا المطلب، الذي يُفترض أنه طبيعي، التحقُّق من حجم النفوذ الذي يتمتع به المتَّهَمون، وأنَّ القوى المساندة له لا تزال قادرة على فرض إرادتها، حتى في قضايا حساسة، من قبيل سقوط الموصل، ومجزرة سبايكر.
وإذا كانت إيران وحلفاؤها، ولا سيما في لبنان وسورية، لا ينفكُّون عن ترديد فضائل إيران في الحفاظ على فلسطين، أو حتى يأملون في توجهاتها وجهودها استعادة حقوقها وحقوق شعبها، فإنَّ الإسهام المركزي في إضعاف العراق، على النحو الذي آلَ إليه، (ولا نتحدث عما أضرّت بسورية) لا يُسهم مطلقا، استراتيجيا، ولا تكتيكيا، في تحقيق تلك الأمور التي هي أقرب إلى الشعارات التي تغيب في حمأة التطاحن والشرذمة السياسية والاجتماعية في بلاد الرافدين.
ومن دلائل تفاقم الأزمة وتعمقها أنَّ طهران لا تقوى على وقفها، وهي التي تصاعدت منذ فترة طويلة، وخرجت عن الاحتمال، ويدل التعاطي الإيراني معها بهذه الآليات السطحية أنها لا تملك حلولا جدية، وإنما قصاراها أنْ تحتوي نتائجها الظاهرة، ولو بالقوَّة، كما وصل الأمر بحسب ما كشفت "العربي الجديد" إلى اتخاذ قواتُ الجيش والشرطة في البصرة موقف المتفرِّج أمام سيطرة مليشيات الحشد الشعبي وتحكُّمها، وهو ما ينذر باقتتال أهلي شيعيّ عنيف.
وإذا كانت لم تتوقف، أو تخمد، والعراق في أوج مواجهته مع عدو وخطر على الجميع، وهو "داعش"، فإنها على الانتهاء بعد الفراغ من ذاك الخطر المُوحِّد أبعد، ما لم يُعَد النظر في الأسس التي انبنت عليها الدولة ومؤسساتها، وإعادة النظر في الهياكل السياسية والعسكرية التي استطالت على (الدولة).