عندما يتجدّد الخلاف بين حماس وفتح

عندما يتجدّد الخلاف بين حماس وفتح

18 مارس 2024
+ الخط -

عاد الخلاف بين حركتي حماس وفتح إلى الظهور، بعد أن غيَّبته معركة طوفان الأقصى، ودائماً، ينجم الخلاف عن اختلاف زاويتي النظر، بين من ينهَج نهْج المقاومة، ومنها المسلَّحة، ومن عدَل عنها، إلى المسار التفاوضي، أو الأساليب غير العُنفيَّة. 
هذا إذا نحَّينا جانباً دعاوى الارتهان إلى أجندات خارجية، مقابل ما يُدّعى أنه القرار الفلسطيني المستقل؛ ذلك أن لا دلائل كافية على مفهوم القرار المستقل لا دلائل كافية عند مَن يُكثِر من ادِّعائه، وهي السلطة الفلسطينية، (وهنا سؤال كبير عن تماهي "فتح" في السلطة، أو مصادرة السلطة القرار الفتحاوي)، فماذا بقي من القرار المستقل، بعد كلِّ هذه السراديب التي أدخلت السلطة فيها نفسها، حتى وصلنا إلى مرحلة فقدان محمود عبّاس ورقة التهديد بحلّ السلطة، أو تسليم مفاتيح المقاطعة؛ رفضاً منه ممارسات دولة الاحتلال، وإدارة ظهرها لكل الالتزامات والاستحقاقات التي ترتَّبت على اتفاقية أوسلو، وتجميدها الأوضاع الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، بما لا يسمح بانتقالها إلى "الدولة الفلسطينية"، وإتمام سيطرتها على معظم أراضي الضفة الغربية المصنَّفة ج، والتي تشغل حوالي 61% من مساحتها، فضلاً عن سير قادة دولة الاحتلال، في حكومة بنيامين نتنياهو، نحو ضمّ الضفة الغربية، وفرْض السيادة الاحتلالية عليها، وهذا لا يجري بالخفاء، ولكن تعلنه الأفعال والأقوال التي انتهت إلى إشهار نتنياهو خريطة فلسطين، في أثناء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، وقبل انطلاق عملية طوفان الأقصى بنحو أسبوعين، ولم تشمل الخريطة أيَّ ذكر لوجود دولة فلسطينية، حيث طغى اللون الأزرق الذي يحمل كلمة إسرائيل على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزّة. هذا بالتوازي مع تصريحات وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش: أنه ليس أمام الفلسطينيين في الضفة الغربية إلا أحد ثلاثة خيارات، القبول بحكم إسرائيل، أو مغادرة البلاد، أو الحرب. وكان أعلن هذا الموقف في سبتمبر/ أيلول، 2017، ضمن ما أطلق عليها " خطّة الحسم"، ويستند فيها إلى أساطير التوراة. ويتبنّى سموتريتش في خطته هذه "الرسائل الثلاث" التي أرسلها، بحسب التوراة، يهوشع بن نون إلى سكّان البلاد عندما احتلها، ثم ظلّ هذا المتطرّف العنصري المنتمي إلى "الصهيونية الدينية" مُصِرّاً على هذه الرؤية التي لا تقبل بوجود الفلسطينيين إلا أفراداً، يعيشون تحت سيادة إسرائيل. وهو ليس إلا مثالاً، وتجسيداً لما تذهب إليه حكومة الاحتلال.

الافتراق بين نهج "حماس"، ومعها مَن لا يزال يتبنَّى خيار المقاومة، ونهج السلطة المسقِط له، كان وقَع، قبل الهجوم، منذ اتفاقية أوسلو

الغريب في الأمر أن بيان حركة فتح الصادر أخيراً، إذا سلّمنا أنه يمثلها حقيقة، يتجاهل كلَّ هذه المخاطر المصيرية المحدقة بالقضية الفلسطينية، وبالوجود الفلسطيني، كله، ليقترب من النظرة المجرّدة، تلك النظرة التي تقترب من تجريم المقاومة، وتحميلها كامل أوزار الإجرام الصهيوني الذي أيقظ العالم، وأقضّ ضمائر الشعوب، إلى جذر المشكلة، وهو إصرار دولة الاحتلال وقادتها على تجاهُل الحقِّ الفلسطيني، إذ لم يتعاطَ النشطاء في العالم، وغير قليل من النُّخَب الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية، إلى وقائع الحرب العدوانية على غزّة، ولا إلى عملية طوفان الأقصى، فقط، بل انتبهت عقولهم وضمائرهم، وفي مقدّمة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس الذي قال في كلمته خلال جلسة لمجلس الأمن: "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدُث من فراغ، لقد تعرَّض الشعب الفلسطيني لاحتلال خانق، على مدار 56 عاماً، ورأوا أراضيهم تلتهمها المستوطنات، وتعاني العنف، خُنِقَ اقتصادُهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهُدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم في التوصُّل إلى حلٍّ سياسي لمحنتهم". 
وفي ما يتعلَّق بدعوى الانفراد بقرار الهجوم على مستوطنات غلاف غزّة، على ما جاء في بيان "فتح"، فالصحيح أن الافتراق بين نهج "حماس"، ومعها مَن لا يزال يتبنَّى خيار المقاومة، ونهج السلطة المسقِط له، كان وقَع، قبل الهجوم، منذ اتفاقية أوسلو، وقد فتح هذا الحدث الباب لكل الفصائل والأفراد للمشاركة، فعليّاً. والأهم أنه جاء بعد أن استشرس الاحتلال، في اعتداءاته على القدس والمسجد الأقصى والفلسطينيين وأملاكهم، ووجودهم، في الضفة الغربية، والقدس، من دون أن يظهر من السلطة، إزاء ذلك، أيّ حوْل أو قوة، وكان هذا (السماح) يغري حكومة نتنياهو (حتى إن الإدارة الأميركية ودولاً أوروبية وصفتها بأنها الأكثر يمينيةً في تاريخ حكومات الاحتلال)، يغريها بمسارعة الجهود، ومسابقة الزمن في فرْض وقائع لا رجعة عنها، في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى؛ ما يعني إسدال الستار عمَّا تسمَّى قضايا الحل النهائي، وهي القدس، والمستوطنات، والحدود، والأمن، واللاجئون، والمياه، والعلاقات الثنائية، بترجمة عملية لصفقة القرن، بل ما تتخيَّره حكومةُ نتنياهو من تلك الصفقة، بإملاءات أحادية الجانب، تتجاهل وجود السلطة، وتحيل الشأن الفلسطيني، (في ظلِّ حملة التطبيع التي لاقت نجاحاً ملحوظاً، فيما عُرِفت باتفاقات أبراهام، على المستوى الرسمي العربي)، إلى شأن داخلي إسرائيلي، لا يعيق التطبيع الكامل، من دون أن يحقَّ للفلسطينيين، بحسب نتنياهو، مجرَّد انتقادها، أو الاعتراض عليها.

ما قامت به "حماس" في عملية طوفان الأقصى، ومعها حركات مقاومة أخرى، كاد يكون محلَّ قبول إجماعي من الفلسطينيين

وبعد، إذا كان خيار المقاومة محلّ سجال، بين قبول ورفض، عندما عوّل قسم من الفلسطينيين على المسار التفاوضي، فإنه (بعد أن أعلن دعاتُه، والمتحمِّسون له، وصولهم إلى طريق مسدود؛ ما اضطرّهم إلى وقف المفاوضات، منذ 2014)، يكتسب مزيداً من الدواعي، والتأييد الذي لم يقتصر على رافضي مسار "أوسلو"، بل تعالت أصوات داخل حركة فتح تطالب باستئنافه، وانخرط شبابٌ من الحركة فعلاً، في أعمال المقاومة.
وبالرغم من محاولات تحميل "حماس" المسؤولية عن جرائم الاحتلال، بدعوى أنها سبَّبتها، فإن خيار استئصال المقاومة، وتجريد سلاحها، وتحقير أدواتها غير المتكافئة مع قدرات الاحتلال، أمرٌ متجذّرٌ في منطق هذه الفئة، قبل عملية طوفان الأقصى، كما هو بعدها. ولعل هذا التموضع ينطلق من مقولة خير وسيلة للدفاع الهجوم، في ضوء التطلّع إلى دور في إدارة شؤون قطاع غزّة، هذا إن أمكن تجاوز موقف نتنياهو الرافض عودة السلطة إليه.
والحقيقة أنَّ ما قامت به حركة حماس في عملية طوفان الأقصى، ومعها حركات مقاومة أخرى، كاد يكون محلَّ قبول إجماعي من الفلسطينيين، بعد أن كشف "الهدوء" الذي حرصت السلطة عليه في الضفة الغربية مقادير التردِّي الذي هوى إليه الفلسطينيون وقضيَّتُهم، حين كانت السلطة تخرُج من صفاقة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لتلتقي وخيبتها من الرئيس الديمقراطي جو بايدن، وحين بقيت تُسلِّي نفسها باليسار الإسرائيلي، ومعسكر السلام، وهي ترى تراجُع هذا المعسكر إلى ما يشبه الاضمحلال.

هل المقاومة، مفهوماً حقوقيّاً، مشروطٌ تحقُّقها ومشروعيتُها، بامتلاك قدرة مكافئة للمحتلّ؟

وبعد، لا يمكن التهوين من جريمة الإبادة الجماعية التي استغلَّت دولةُ الاحتلال عملية طوفان الأقصى لتمريرها، ولكن حركة حماس لا تتحمَّل وحدَها تبعاتها، إذ كانت العلامة الصارخة على أزمة الفلسطينيين المصيرية، واليومية. وهي حصيلة الوهْن العربي والإسلامي، الذي وصل إلى حدّ الخذلان، وأحياناً إلى تواطؤ نظم عربية رأت نفسها في تناقض ندِّيٍّ مع هذا الخيار القائم على المواجهة. وإن جاز أن تُضَيَّق الدائرة، بفصل الحركة عن سياقها، ومحيطها الاجتماعي في غزّة، فهل كانت "حماس" ترجو منافع حزبية وسلطوية من مثل هذه الخطوة التي خاطرت فيها بمصيرها، وقادتها، وكوادرها، وبحصيلة ما راكمته من قدراتٍ قتالية، فضلاً عن فرص بقائها الحكومي؟ 
ليبقى، بعد ذلك، السؤال مفتوحاً: هل المقاومة، مفهوماً حقوقيّاً، مشروطٌ تحقُّقها ومشروعيتُها، بامتلاك قدرة مكافئة للمحتلّ؟ وبالتوازي: أيُّهما أفضل وأعقل، التعايش، والتكيُّف مع الاحتلال، وانتظاره، حتى يمضي إلى نهايته، أم مقاطعته، ومحاولة إرباك مساره، بالمستطاع، إلى أن تنضج الظروف اللازمة في فلسطين وخارجها؟