غزّة... مَن المسؤول عن مرارة الخيبة؟

غزّة... مَن المسؤول عن مرارة الخيبة؟

29 فبراير 2024

(محمد الجالوس)

+ الخط -

كلماتٌ من غزّة، تتابَع بالخيبة والخذلان، تشكو ترْكَها للموت والجوع والبطش الإجرامي، يموتُ الناس هناك جوعاً بالمعنى الحقيقي الواقعي، يذوقون ألمَ الجوع، حتى الموت، وهم على مقرُبةٍ من عالمٍ عربي لا يعدَم الخير، ولو في حدِّه الأدنى اللازم، وعلى مقربةٍ من عدوِّهم المحاصِر المُجوِّع، حتى الموت، وهو ينعم، على حساب أصحاب الأرض، بأعلى درجات الرفاهية والوفرة.

تتكدَّس شاحناتُ المساعدة منتظرةً إذن إسرائيل، مفوَّض وكالة أونروا يحذَر: آخِر مرَّة تمكنَّا فيها من إيصال المساعدات الغذائية إلى شمال قطاع غزّة، كانت في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، المقرِّرة الأممية: 10% فقط من المساعدات تصل إلى قطاع غزّة. الصليب الأحمر الدولي: الوضع في قطاع غزّة يزداد تدهوراً، مع تراجُع الدعم الإنساني، وإنهاك المستشفيات. وتحذيرات أممية من مجاعة وشيكة.

هذا العدوُّ المحارب والمحاصِر، قيادتُه السياسية مدعومةٌ بأغلبيةٍ تصرُّ على منْع وصول الطعام، أو الإغاثة، بذريعة وصولها إلى مقاتلي المقاومة، هذا بعد أن دمَّروا غزّة، بكلِّ مرافقها الحيوية، وبنيتها التحتية، حتى معالم المدن، كالساحات والحدائق، مستودع الذكريات الجمعية، بذريعة البحث عن الأنفاق، والقضاء على حركة المقاومة الإسلامية وسلطتها.

ولكن الشعور بالخذلان والخيبة لا يأتي من أفاعيل إسرائيل وقادتها المهووسين بالدم والثأر الدفين، إنما من أمل غزة بعُمقها العربي والإسلامي، بصلات وانتظارات، لا يقنع شعبُ غزة أو يسلِّم بانقطاعها. الإنسان البسيط، بالتوازي مع دعائه، وتصبُّره، يستجيب لنداءات قارّة في نفسه، لا هي بلغت حدَّ اليأس المريح، ولا هي عرفت استجاباتٍ شافية. وهنا السؤال الحقيقي الذي نحبُّ أنْ نسمع إجابةً عنه: ما طبيعة علاقة العرب بفلسطين؟ أو كيف ينظر الساسةُ إلى تلك العلاقة بالضبط؟ هل ثمَّة توصيفٌ منضبط، أو التزام محدَّد، أم هي مجرَّد علاقة أدبية فضفاضة؟ لا نريد أن نفترض أن تتعرَّض فلسطين، أو جزء من شعبها للإبادة، لأنه يتعرَّض الآن، لها، فعلًا، لكي نسأل: هل وصولُها إلى شفير الإبادة داخلٌ في المسموح، ومُجيزٌ هذا الانقطاعَ وإدارة الظهر؟

الشعور بالخذلان والخيبة لا يأتي من أفاعيل إسرائيل وقادتها المهووسين بالدم والثأر الدفين، إنما من أمل غزة بعُمقها العربي والإسلامي

الصحيح أن الالتزامات الاجتماعية، ذات السلطة الأدبية، قابلةٌ بطبيعتها للأخذ والردّ، للوفاء أو النُكران، في عالمٍ شديد الواقعية إلى حدِّ الرَّقمية، والآليَّة. حتى أن تلك الروحية تسرَّبت إلى عالم الجماعات والأفراد، ولو لم يكن كذلك لمَا استراحت دولٌ عربيةٌ وإسلامية إلى مواقف بالغة القسوة، بالسكوت، والتفرُّج السلبي، إلا من كلام لرفع العتَب، لا تأثير له (والوقت، في قطاع غزّة، من دماء وأرواح)، في مجريات الأحداث، أو في مجريات الموت والحياة.

ومع ذلك، من الصحيح التمييز بين الشعوب والنُّظُم السياسية التي تحكمُها، فلا تزال فلسطين حاضرةً بقوَّة في وجدان الشعوب العربية، وهي لا تزال غير قادرة على هضْم دولة الاحتلال، ولا يطاول الجدلُ طبيعةَ تلك الدولة إلا في نِسَبٍ محدودة. وهذا أكَّدته استطلاعاتٌ أخيراً، كما في السعودية، مثلًا، وغيرها.

لكن الشعوب العربية، في غالبيتها، لا تُظهر ردّة فعل ترقى إلى ما يُقترف في غزّة، ومن المرجَّح أن وراء ذلك تعبَها الوجودي في محاولات التحقُّق، بعد أن لم تنجح ثورات الربيع العربي في بلدانها، ولم تشجِّع، تاليًا، أنْ يَلحَق بها غيرُها من الشعوب الشقيقة التي معها في الهمِّ شرقُ.

وأنَّ وراء ذلك الصمت، أو شِبْهِه، كثرةُ الصدّ، كلَّما حاولت، ولبّت النداء، لنجدة فلسطين، وأهلها، وأنَّ وراء هذا الصمت، أو شبه الصمت تلك السياسات الإعلامية والتعليمية التي تتابعت، وتنامت على إضعاف الصلة بفلسطين، وبالشأن العربي العام، مقابل تظهير وتكريس الشأن الخاص، بالتضافر مع الانهماكات اليومية المعيشية، بفضل سياسات اقتصادية لم تحقِّق رفاهية، حتى في كثير من الدول العربية الغنية، وحقَّقت الجوع والحرمان في البلاد التي تصوَّر فقيرةً، أو معدَمة!

ولا يخفى أيضًا أن فئات من الشعوب وقعت ضحية (وإن تكن التقديرات أنها ليست أكثرية)، وقعت ضحية مغالطاتٍ، تهدف إلى التبرئة من التضامن اللازم، والضروري، على خلفية أداء الفلسطينيين؛ مرّة بادِّعاء تفريطهم بأرضهم، ومرّة بادِّعاء اقتراف المغامرات، والتشدُّد، ومرَّة بمزاعم عيشهم المترَف، وطوراً بسبب الخلافات والانقسامات السياسية بين ممثليهم من المنظمّات والفصائل.

قليلٌ من يفطن أنَّ المفقود، بالدرجة الأولى، ليس الترابط والإحساس المشترك، ولكن اختلال الجسم كلِّه وإنهاكه

وهذا كله لا يسوِّغ قطْعَ الصلة، والاستنامة إلى تذنيب الفلسطينيين، مع أنه من بَدِيهي القول إن الشعوب لا تعدَم الخير والشر، ولا يعدَم قادتُها الانتهازيَّ، والمتاجِر، لكننا نتحدَّث عن عَصَب الشعوب وصُلْبها، وجوهرها البسيط، وهذا يصعُب أنْ ينجرف إلى تلك المساحات الضيِّقة، إلا إن غُلِب على أمره، كما حين يصادَر رأي الشعب، وتغصب قراره وإرادته سلطة سياسية، تنظر إلى الرضا الدولي، في الصغيرة والكبيرة، أكثر مما تُنصِت إلى آمال الناس ومطالبهم.

وبالعودِ إلى الحكومات العربية والنُّظُم، فإننا نلحظ خلْطًا بين الانسجام مع القانون الدولي والتعاون مع المؤسّسات الدولية، وبين التخلِّي التام، والاكتفاء بتفويض القرار كلِّه للأمم المتحدة والمنظمّات الدولية. وكأن الدول العربية لا تملك أيَّ قرارٍ ذاتي منفرد، يحقِّق معنى وجودها وسيادتها، من قبيل التلويح والتهديدات بأوراق تملكها وتعرفها. أما الشعوب العربية فعلاقتها بالنظُم التي تحكمها لا تقوم على التفويض الحقيقي، بقدر ما تقوم على المصادَرة، والحَجْر، فلا تعود حالة الخذلان هذه إلى بلادة الشعور الفردي، لأننا نلحظ مدى الحُرْقة والشعور بالذنب يصدُران، صادقين، عن كثيرين، برغم ضعف الحالة الاقتصادية لمجمل الناس، إنما هؤلاء يُحال بينهم وبين تقديم ما يقدرون عليه. وهم يشعرون بالعجز والقهر، لذلك، ولو دعوناهم لنصرة غزّة، وإسنادها، فإنهم يصطدمون ببنىً سياسيةٍ وهياكلَ مؤسَّسيَّة تحجِّمهم، وتكبِّل أيديهم، فالمسألة إزاء غزّة للأسف تتطلَّب إجراءاتٍ سريعة، وخطواتٍ ملحِّة، لكنها تتطلب، حتى تتأتَّى، وتتجسَّد، تغييراتٍ عميقة، وتأهيلًا للفعل السياسي والاجتماعي.

وأخيراً، لنا أن نتصوَّر تداعيات هذا الخذلان ليس على أهل غزّة فقط، ولكن على مجمل الشعوب العربية، الواعية إمكان تعرَّضها، لمثل هذه الحاجة إلى النجدة... إذ مِن شأنه أن يُحضِر عواملَ التفكير الانهزامي، وروحَ الانكفاء، لدى غير المتأنِّين في تحليل الحالة العربية، وهم ليسوا قلّة، فقليلٌ من يفطن أنَّ المفقود، بالدرجة الأولى، ليس الترابط والإحساس المشترك، ولكن اختلال الجسم كلِّه وإنهاكه الراهن.