إسرائيل... توسُّعها المهدَّد لا وجودُها

إسرائيل... توسُّعها المهدَّد لا وجودُها

17 فبراير 2024
+ الخط -

كلُّ هذا العدوان الاحتلالي، وكلُّ هذا التبجُّح في مواجهة العالم، وكلُّ هذه الاستهانة بنداءات الاقتصاد في قتل المدنيِّين من النساء والأطفال، وغيرهم، كما التحذيرات من عملية برّية واسعة في رفح، التي يتكدَّس فيها نازحون بما يزيد عن المليون، أو ما يعادل، أو يزيد على نصف سكَّان القطاع، تواجهها دولةُ الاحتلال بذريعة حماية وجودها، أو تحقيق أمنها. لكنها لا تقبل أنْ يمتدَّ النقاش إلى حالتها السياسية، ومنها إصرارُها على احتلالها، ووأد أيِّ فرصة جِدِّية لوضع حدٍّ له، هي تريد الاحتفاظ بكلِّ أراضي فلسطين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة، تحت سيادتها، أو تحت سيطرتها المباشرة، وهي تسير بخطوات حثيثة نحو تصفية القضية الفلسطينية، كما في استهدافها، أخيرا، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في هذا الوقت الذي تمسُّ الحاجة فيه إلى خدماتها الأساسية، في سعيٍ منها إلى إعدام فرص الحياة، في قطاع غزّة، تحديدًا، وطيّ قضية اللاجئين، الموزَّعين في الضفة الغربية والقطاع وخارج فلسطين.

ترى حكومة الاحتلال، وتحديداً، الراهنة، اتفاقيات السلام تَحُدّ من تلك الطموحات التوسُّعية، حتى لو توفَّرت ضماناتٌ دوليةٌ ببقاء تفوُّقها النوعي، فهي ترفض مناقشة قيام دولة فلسطينية، حتى لو منزوعة السلاح، بقيادة أكثر القيادات الفلسطينية "اعتدالاً"، وحتى لو توفَّرت الإرادة السياسية، عند "الدول العربية والإسلامية"، بتطبيع كامل، كما نصَّت المبادرة العربية للسلام.

هذا المنطق قائم على قناعات بأنها قادرة بالقوة، ومن دون دفْع أثمان، على حماية نفسها، وردع الأخطار، إذ لا تتوفّر إرادة دولية جدّية، أو عربية وإسلامية، لتغيير التعاطي معها، إلى خياراتٍ غير الوسائل الدبلوماسية، والسياسية، أو القانونية المجهَضة، أو الممطوطة إلى أن تفرَّغ من مضمونها.

والحاصل أنه حتى حركات المقاومة في فلسطين، وفي ظلِّ هذه المعادلات العربية والإقليمية والدولية الراهنة، لا تصل إلى أن تكون تهديداً وجوديّاً لدولة الاحتلال. ويؤكد العدوان على غزّة هذه الحقيقة، فهي، منذ بدأته، منذ ما يزيد على أربعة أشهر، تستفرد بغزة، كلِّها، بشرِها، وحجرِها، ومقوِّمات الحياة الحيوية فيها.

رئيس حكومة الاحتلال، وإلى جانبه متطرَّفون في مركز القرار، يستدلّون على سقوط الحلول غير العسكرية، بما فعله رئيس الحكومة الأسبق، آرئيل شاورن، حين نفَّذ الانسحاب من قطاع غزّة، بشكل أُحادي، من القطاع، عام 2005، وبما خلّفه اتفاق أوسلو، في الضفة الغربية، حين لم يًفضِ ذلك إلى وقف الأعمال المقاومة ضدَّ قوات الاحتلال ومستوطنيه، مع العلم أن تلك المتغيّرات تجاهلت الحدَّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وأبقت الضفة الغربية، والقطاع (لا يزال وفق القانون الدولي تحت الاحتلال) في حالة غير قابلة للاستمرار، ليس فقط من حيث التطلُّعات الوطنية والسياسية، ولكن من ناحية الحياة الطبيعية، والمعيشية اليومية.

ترتكن دولة الاحتلال إلى قوَّة عسكرية متفوِّقة، مقابل تحجيم الدول العربية فضلاً عن الدولة الفلسطينية المتحدّث عنها

أما الخطر الذي تمثله حركات المقاومة، فهو مقيَّدٌ بالظروف العربية الرسمية، وحتى الشعبية المحيطة، فتلك الحركات، وبرغم انعدام اتفاقية سلام نهائية، وبرغم إصرار دولة الاحتلال على المُضِيِّ في أهدافها إلى أقصاها، لا تنجح في فكفكة الحالة العربية المُصرَّة على خيار السلام، وكلُّ هذا العدوان البالغ الإيلام والاستفزاز لم يُلهِب المنطقة العربية، إلى حدّ الاقتراب من الدخول في صراع مفتوح مع دولة الاحتلال، برغم ما يجري من جهة لبنان، ومن جهة اليمن؛ فكيف إذا أضيفت إلى القيود اتفاقيات سلام، وتغييرات على الأرض، وضمانات، برعاية دولية، ومشاركة عربية، وإقليمية؟

لا ترفُض حركة حماس هذا المقترَح، من حيث المبدأ، بل إنها، على مستوى قادتها، تبدي استعداداً له، كما جاء في إعلان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، انفتاح حركته على تشكيل "حكومة وطنية" في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وقال: "لقد تلقَّينا مبادرات عديدة فيما يتعلق بالوضع الداخلي (الفلسطيني)، نحن منفتحون من أجل إعادة المرجعية الوطنية وحكومة وطنية في الضفة وغزّة". وسبق لحركة حماس أن شكّلت حكومة وحدة تحت قيادة الرئيس محمود عبّاس. حين نص اتفاق مكّة 2007 الذي تشكَّلت بموجبه حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية على احترام "حماس" الاتفاقات الموقعة بين السلطة ومنظمة التحرير وإسرائيل. كما أن الحركة تسعى إلى الانضمام إلى منظمّة التحرير، والمنظمّة ملتزمة بالسلام، ومعترفة بإسرائيل.

في العموم، يجري منطق "حماس"، كما يتضح في أجدد ما صدر عنها، تحت عنوان"هذه روايتُنا.. لماذا طوفان الأقصى؟"، وفق القانون الدولي، فهي تترافع على أساس قرارات الأمم المتحدة، وتوضح مسؤولية إسرائيل عن تدمير إمكانية دولة فلسطينية على حدود 4 حزيران، وتنصلها من اتفاق أوسلو 1993، والوصول بأوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال إلى حائط مسدود، مع تصريح نتنياهو وتأكيداته المتواصلة على رفض دولة فلسطينية، وإصراره على الاستحواذ على كامل فلسطين. و"حماس" في بيانها هذا تطالب بـ "إسناد الشعب الفلسطيني من أجل تحرير أرضه وإقامة دولته، وممارسة حقه في تقرير مصيره، كبقية شعوب العالم". ومعروف أن أيَّ اتفاقية تبقى قابلة للنقض، حين تتوفَّر لطرفٍ من أطرافها عناصر القدرة على نقضها، وخصوصاً إذا كان يراها مُجحفة، ولذلك لا مجال لأيّ اتفاقات يقينيةِ الضَّمان، ولذلك لا تكفّ الدول والكيانات السياسية عن تعظيم قوَّتها، حتى في أوقات السِّلْم؛ تحسُّباً لأيِّ خطر، ظاهر، أو خفيّ، حتى من دولٍ لا تصنَّف مُعادية.

يبدو أن الخطر الوجوديّ ليس المحرِّك لسياسات إسرائيل وإجرامها، بقدر المعتقدات الدينية الخاصة، المتّسمة بالتوسُّع والإقصاء، والاستحواذ

وترتكن دولة الاحتلال إلى قوَّة عسكرية متفوِّقة، مقابل تحجيم الدول العربية، فضلاً عن الدولة الفلسطينية المتحدّث عنها، لتُضاف إلى ذلك تحالفات إسرائيل الراسخة مع الدول الغربية بصفة عامة، ومع الولايات المتحدة بخاصَّة، التي لم تتوانَ عن دعمها العسكري والاقتصادي، في كل حروبها التي خاضتها في المنطقة، والإدارات الأميركية المتعاقبة على ثبات من هذه العقيدة التي تتجاوز خلافاتها، إنْ وقعت، مع الجهة الحاكمة، في إسرائيل، كما يحدُث، هذه الأيام، بين إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وحكومة نتنياهو، حيث تتّسع الهوّة بينهما، وتتعمّق التناقضات، على خلفية احتفاظ حكومة الاحتلال بوزيرين، تراهما واشنطن غير متَّسقَيْن بتاتًا، مع رؤيتها، وفكرها، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

وإذا كانت "حماس" تبدي كلِّ تلك المرونة، وتتعاطى مع القانون الدولي، وحتى تسمح بهامش لاتفاقيات السلام مع إسرائيل، فإن وزراء نتنياهو المقرَّبين، حتى التماهي، من بن غفير إلى سموتريتش، يديرون ظهورهم للعالم أجمع، ويسخرون من مرجعياته القانونية والأممية، حتى الازدراء، والاتِّهام باللاسامية. هذا يؤكِّد أن الخطر الوجوديّ ليس المحرِّك، بقدر المعتقدات الدينية الخاصة، المتّسمة بالتوسُّع والإقصاء، والاستحواذ. وقادة الاحتلال، الآن، يرون أيَّ تهديد لهذه الدولة، بهذه الصفة، سبباً لحروبٍ بلا قيود، وعلى العالم كله أن يكيِّف نفسه معها، فيما هي تتغذّى وتحتمي بدور الضحية.