أيّهما المتماسك... حماس أم دولة الاحتلال؟

أيّهما المتماسك... حماس أم دولة الاحتلال؟

02 يناير 2024
+ الخط -

تبدو حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركات المقاومة، في قطاع غزّة، وهي تحت القصف، والمعارك، في الظاهر، بلا كيانٍ يجسِّدها، فهي غائبة. وحين تظهر، فإنها تظهر في مجموعاتٍ قليلةِ العدد، ولا يظهر لنا من رأسها في القطاع، إلا الناطق الرسمي باسم جناحها العسكري؛ كتائب الشهيد عز الدين القسَّام، أبو عبيدة، ظهورًا محجوبًا، إنْ جاز التعبير، لكنه لا يعكس إلا خطابًا متماسكًا، يمثِّل رأيًا قياديًّا واحدًا، ماضيًا، ومصمِّمًا. ينسحب هذا التماسُك والاتحاد، كذلك، على "سرايا القدس"؛ الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، في فلسطين، فهي صِنْوُ "حماس" في المعركة، ولا تُبايِنُها في إدارة الحرب، وفي المواقف من تداعياتها. 
تحافظ حركات المقاومة على هذا التماسُك الذي كلُّ شيءٍ يعاندُه ويحاربه، فعلًا، لا قولًا، فقط، برغم الضغط العسكري البالغ الفظاعة والكثافة، والقوة التدميرية المهولة، لا ينفذ شيءٌ من تأثير ذلك إلى كيان الحركة، حماس، أو الجهاد الإسلامي، فيخلخل أيَّ مكانٍ في القمَّة، أو في القواعد، ولا يبلبل أيَّ عناصر مقاتِلة، بالشكوى، أو بالتذمُّر، أو بالخوف، بل العكس هو الذي يحدث، ويزداد، وهذا ما نراه كلَّ يوم، في المادة الإعلامية التي تحرِّرها المقاومة من أرض المعارك، ما يعكس الروح المقاوِمة المتمرِّسة؛ حتى الاعتياد، بروح الصيَّاد المتأنِّي، أو بروح اللاعب المستمتع باللعب، في أرضِه، وملعبه، وبين جمهوره.

لا قوة مكافئة، نقيضة لكلِّ تلك القوة المادية الجبَّارة التي صبَّها الاحتلالُ عليهم، على مدار ما يزيد عن 80 يومًا

وكانت العلامات الكبرى على هذا التماسك تلك الحالة العجيبة، المُعجِبة، من الصبر والتحمُّل والاستعداد للتضحية، من شعب المقاومة في القطاع. يحدث هذا بالرغم من أنهم عاينوا روحَ غزة تُزهَق، أمام ناظرِيهم، لكن تلك المباني والحواضر المدمَّرة لها في روح الغزيِّين أرواحٌ كامنة؛ إنهم من يبنون المدن، وليست المدن هي التي تبنيهم، إنهم ينشئونها على أعينهم، وعلى بصائرهم، صحيح أن تلك الحياة التي طمستها صواريخُ الاحتلال وقنابله، تغرق الآن في ركامٍ مركوم، ولكن على موعدٍ مع بعث، يتجدَّد كموج بحر غزّة، ولا يهدأ، إلا ليندفع.
لا نقول هذا، ترفعًّا عن أوجاع الناس التي تضرع إلى الله، بدعوات المستغيثين؛ من إبادة، تخطو، ترتسم، وتحاصِر ملامح الحياة في غزة. ... ولكن حال كثيرين منهم أنهم أيقنوا أن هذا النازل بهم لا خيار إزاءه غير تلقِّيه بالصبر؛ فالصبر على هذه الأقدار البالغة الإيلام ينفع معه تضئيل الخيارات البشرية، إلى نوعٍ من التسليم والتفويض الإيماني لله؛ أنه "لن يصيبَنا إلا ما كتب الله لنا"، وأن ما أصابنا لم يكن ليُخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليُصيبَنا. 
بالطبع، ما يدفعنا إلى هذا المنحى التفسيري أنه لا قوة مكافئة، نقيضة لكلِّ تلك القوة المادية الجبَّارة التي صبَّها الاحتلالُ عليهم، على مدار ما يزيد عن 80 يومًا؛ ما يُحوِج المجتمع في غزة إلى عقود؛ حتى يتعافى، بحسب جون تشابيل، الزميل والقانوني في CIVIC، (مجموعة مقرُّها واشنطن، تركِّز على تقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيِّين في الصراع)؛ فلا قوة تشحنهم، لتبقيهم وجهًا لوجه أمام هذه القوة التدميرية غير المسبوقة عالميًّا، إلا قوّة إيمانية جمعية تفوقها، ذلك أنهم صبروا كلَّ هذه الفترة أمام محاولات دحْرهم إلى خارج قطاعهم الغالي عليهم، فلم يطاوعوا، أو يلينوا، وقد لانَ الحديد، حتى ذاب، وتفتَّت الصخر، ترابًا وهباء.

حالة نقيضة لحالة غزّة، المتماسكة، فغذَّت في دولة الاحتلال انقساماتٍ طفت، وتطفو على السطح

هذه الحالة الالتحامية، بصفة إجمالية، بين شقِّي المعادلة، المقاومة والشعب؛ مما يقهر عدوَّهم، ويُحبِط قادتَه، السياسيِّين والعسكريِّين، الذين بالغوا في القتل والتفظيع، على المستوي الدموي والمالي، وعلى المستوى النفسي، المعنوي؛ لعلَّ الشعب يثور على المقاومة، أو على الأقل ينفضُّ عنها. ولعل هذا الصمود الأسطوري، مع توالي الخسائر في أرواح جنود الاحتلال، وتوالي الإصابات البالغة حدَّ الإعاقة الدائمة، فضلًا عمَّا يترتَّب من كُلَفٍ ماديةٍ ثقيلة، على مجمل ميزانية دولة الاحتلال، ذلك كله مضافًا وهْنُ الجبهة الداخلية عن تحمُّل هذه الأنواع من الأثمان غير الظاهر لها آخِر، لعلَّ ذلك كله هو الذي استحضر حالةً نقيضةً لحالة غزّة، المتماسكة، فغذَّى في دولة الاحتلال انقساماتٍ طفت، وتطفو على السطح؛ أيديولوجية، وحزبية، وانتخابية تنافُسية، لا تخلو من انتهازية، ولا تقتصر على المثقَل بالفساد، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وبعضها ناجمٌ عن اضطرابات الخسائر والنكسات، وخيبة التقديرات، بأداء جيشهم، مقابل تفوّق أداء المقاومة الذي سفَّه ظنونَهم.
حتى في وقتٍ هم بأمسِّ الحاجة إلى جَبْر تلك الكسور، وجَسْرِ تلك الفجوات والتبايُنات، فبرغم أن حياتهم، على المعنى الحقيقي، قبل المعنى السياسي الجمعي، مهدَّدة، إلا أن هذا الخطر الخارجي الفريد، وغير المسبوق، لم يقوَ على تأجيل تلك الخلافات والتناقضات، حتى لا نقول التخلُّص منها.
هذه الدولة التي تُسخَّر لها كلُّ مقوِّمات التماسُك، بالدعم الدولي، ولا يقتصر على أميركا، أكبر داعميها، ولكن كبريات الدول الغربية، من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وغيرها، من دول أوروبية، وغير أوروبية، يدعمون، دعمًا جِدِّيًا، بكلِّ ما يمكنهم، من سلاحٍ ومال، ورجال، وخبراتٍ، بالإضافة إلى الدعم المعنوي والإعلامي. أضف إليهم محيطًا عربيًّا وإسلاميًّا، ممسوكًا، في المجمل، بأنظمة حاكمة ترفض الاقتراب، أو التلويح بخيار الحرب، برغم كلِّ ما حصل، وبعضُها: مهما حصل؛ ما يعني طمأنة قادة الاحتلال، وشعبها، وإتاحة كامل الوقت، حتى الفراغ من أهدافها. وداخليا، تُسخَّر لهم، دولة تُعَدُّ حديثة؛ بإمكاناتها، وتطوُّرها، في جيشها، وخدماتها، ورفاهية مواطنيها.

دولة الاحتلال مصنوعة، وظيفية، للقوى الدولية فيها ما لا يقلُّ، أو يزيد عن قواها الذاتية

هذه المفارقة اللافتة بين تماسُك "حماس"، وحركات المقاومة، من جهة، وانقسام، أو تصدّع في حكومة الاحتلال، وفي قواعدها الشعبية والنخبوية، من الجهة الأخرى، يحيلنا إلى طبيعة النشأة والبناء، فدولة الاحتلال مصنوعة، وظيفية، للقوى الدولية فيها ما لا يقلُّ، أو يزيد عن قواها الذاتية، وأفرادها، أو مواطنوها، في تعاقُدٍ، في جوهره انتهازيٌّ نفعيٌّ، تطفُّليّ، قدِموا إليها، مدفوعين بإغراءات الرفاهية، على أعقاب دعاية تضليلية مؤسِّسة: "أرضٌ بلا شعب"، ولكنهم، وبالذات، بعد "طوفان الأقصى"، ووقائع الحرب التي تلتها، وقفوا على أنَّ ثمة شعبًا، مِن أعرق الشعوب في معنى الوجود والتأصُّل، هذا التأصُّل والوجود بكلِّ عوامله، أنجب هذه الظاهرة القتالية المتمثِّلة في حركات المقاومة، في غزّة، وهذه الحركة المقاوِمة، (على النقيض من دولة الاحتلال المدجَّجة، بكثافةٍ مادية قلَّ نظيرُها)، أسَّست على عوامل طبيعية، ذاتية، وبدأبٍ طويل النَّفَس، قوةً مسلَّحة، شديدة التنظيم، والفعالية، منيعةً، في اتِّساقها، على هدفٍ لا يحتمِل الجدل، هو استرجاعُ الحقوق، وصَوْنُ الكرامة، بقيادةٍ تنبع طبيعيًّا، من أرض الحركة، وتنمو في تربتها. ولذلك، لم يقضِ على الحركة القضاءُ على قادتها، ما دامت قادرة من الناحية التنظيمية، على إعادة هيكلة نفسها، وما دامت من الناحية العقدية والدافعية، تحتفظ بالروح، وتصونها.
وأخيرًا، أسفر المشهدُ الميداني، عن دبَّابة ثقيلةٍ جامدة، ترمز إلى دولتها، وجيشها، مقابل شاب، أو بضعة شباب، خِفاف الحركة، بذكاءٍ خلَّاق، يناور ذكاءً صناعيًّا، وتحرُّكاتٍ من القادة إلى الجند، لا تخلو من بلادة، فهناك التماسُك وَبالٌ عليهم، وهنا الحركيَّة وثّابة.