هل يدين أبو مازن...؟

هل يدين أبو مازن...؟

19 أكتوبر 2015

عباس: نحن طلاب حقّ وعدل وسلام (Getty)

+ الخط -
لم يشتمل خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الأسبوع الماضي، على إدانة صريحة لعلميّات الطعن والقتل التي قام بها فلسطينيّون في القدس، ومناطق أخرى، ضدّ إسرائيليّين محتلّين، وإن قال في صيغة الخبر التي هي في المنظور البلاغيّ أشدُّ توكيدا من الأمر، أو النهي "نحن طلابُ حقّ وعدل وسلام، لا نعتدي على أحد". ولذلك، طالبه وزير الخارجيّة الأميركيّ، جون كيري، بالإدانة الصريحة، علنا، تماهياً مع طلب نتنياهو العلني ذلك من عباس، من قبل. وإذا كان نتنياهو يستجيب لضغوط حزبيّة وشعبيّة قويّة، تتعالى فيها اتهاماتُ الفشل الأمنيّ لحكومته، وإن كان كذلك يحاول احتواء المزايدات عليه، لصالح مزيد من الاستيطان والتصعيد الأمنيّ، فإن الموقف الأميركيّ كان يُفترض فيه أن يكون أكثر تفهّماً لحساسيّة الموقف الرسميّ الفلسطينيّ الراهن، وأن تتجنّب واشنطن هذه النبرة الإلزاميّة الصريحة والعلنيّة، على الرغم من أنه بالإمكان أن تُفهم الإدانة، أو الرفض في طيّات الخطاب، وفيما سبقه وتبعه من مواقف السلطة الفلسطينيّة العمليّة.
لا يخفى أن الحالة الشعوريّة العاطفيّة للشعب الفلسطينيّ في هذه المرحلة (بعد إعلان أرباب التفاوض الفلسطينيّ إخفاق هذا النهج، وانسداد أفقه، على الأقلّ مع حكومة نتنياهو الأكثر يمينيّة واستيطانيّة)، ونتنياهو معروف بالتملّص والكذب، وقد قال عنه والده، قبيل أن يرحل، إنه في ما يتعلّق بالدولة الفلسطينيّة مناور، ولا يؤيّدها، وقال له إنه وضع شروطا على الفلسطينيّين فلن يتمكنّوا من قبولها. ومن جديد أكاذيب نتنياهو الصفيقة زعمه إن إسرائيل مَن حافظت على قدسيّة الأقصى، ولولاها لأتى المتشدّدون الإسلاميّون إلى هنا.
لا تقبل هذه الحالة الفلسطينيّة، أو تتقبّل ما كنت تقبله، ولو على مضض، من مواقف فلسطينيّة رسميّة سابقة. وقد أدرك الرئيس أبو مازن ذلك، حين هدّد على منبر الأمم المتحدة بالتوقّف عن الالتزام بالاتفاقات الموقّعة مع إسرائيل، وأن تتحمّل مسؤوليتها دولة احتلال، ما دامت الأخيرة لا تلتزم بتلك الاتفاقات، ومنها التنسيق الأمنيّ الذي سبق أن وُصف بالمقدّس، وهو في الحقيقة معادلٌ وجوديٌّ للسلطة.
ولعلّ أخطر ما قد تتعرّض له السلطة هو العزل شعبيّا، ومن ثمَّ التجاوز. ولذلك، تجنّبت قوّات الأمن الفلسطينيّ الصدام مع المتظاهرين، أو منع شباب المدن الفلسطينيّة من الوصول إلى مناطق التماس مع قوّات الاحتلال، خلافاً لمواقفها في الأوقات السابقة. حتى إن حركة فتح، الظهير القويّ للسلطة، في جزئيّتها الفلسطينيّة، قبلاً، لا تملك أن تتجاهل هذه الأحداث النضاليّة، وينخرط شبابُها فيها، كما سائر الشباب الفلسطينيّ، ولا سيّما جيل العشرينيّات، ومنهم من وُلد بعد اتفاقيّة أوسلو (1993) الأساس القانونيّ للسلطة، بل القيد القانونيّ لها. وهذا الجيل غير المكبّل بالقيود المعيشيّة، وبالمصالح الفرديّة، والأكثر إحساسا وتفاعلا مع الجرائم الاحتلاليّة الاستيطانيّة، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها، لا يجد نفسه ملزماً بما يثقل كاهل السلطة، ويكبّل مواقفها.

وإنه، وإن كان الإصرار على الاقتصار "على المقاومة الشعبيّة السلميّة، والنضال السياسيّ والقانونيّ" لا يساعد على التضافر النضاليّ، والالتحام الوجدانيّ، بين الشعب والقيادة، إلا أن التقدّم خطوة أخرى نحو مجابهة صريحة مع هذا التيّار (وهنا تتوقّف الخطورة على قوّة التيّار) يهدّد بقطع أيّ خيوط متبقية، فضلا عن أن من شأنه أن يغري نتنياهو بمزيد من المَطالب، وفي مقدمتها تصدّي قوّات الأمن الفلسطينيّ، فعليّا، للمتظاهرين الفلسطينيّين في هذه اللحظات الحرجة.
ومع أن الولايات المتحدة تحاول (منعَ تفجّر الأوضاع وتهديد المنطقة بمزيد من المخاطر) إلا أنها، كما يبدو، لا تزال تتعامل بالطريقة نفسها التي أفضت إلى هذه النتائج، وهي، على صعيد تعاملها مع الجانب الفلسطينيّ، تتماهى مع الطريقة الإسرائيليّة، فَكيري لا يهتمّ بانعكاسات هذا الطلب العلنيّ، على شعبيّة عباس، والحرج الذي ستتسبّب به الاستجابة، أو الرضوخ، في حال حصل، وهو أمر يتنافى والتقاليد الدبلوماسيّة، ويتجاهل سلبيّات التدخّلات، أو الإملاءات السافرة لما يُفترض أنها سلطة، لها مؤسّساتُها، ومرجعيّاتها، وتقديراتها.
لا تقدر واشنطن الاعتبارات الواقعيّة، ولا المواقف الفلسطينيّة الرسميّة (وهي إيمان عباس الحقيقيّ، والقيادة الفلسطينيّة، بحلّ الدولتين، وبالنضال السلميّ، ورفض النضال العنيف، أو المسلّح) ولا تقدِّر واشنطن كذلك مواقف السلطة العمليّة؛ إذ تستمرّ هذه في التنسيق الأمنيّ، وبشهادة الجيش الإسرائيليّ، من دون تأثّر، حتى بهذه الظروف الدمويّة، والاستفزازيّة، فلسطينيّا.
وبهذا الموقف الأميركيّ، تتقاطع واشنطن مع حكومة نتنياهو، والحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة التي تتعامى عن التناقض الحقيقيّ (الاحتلال) وعن طبيعة الدور الإسرائيليّ، وهي أن إسرائيل هي التي تحتلّ، على الأقلّ، الضفة الغربيّة والقدس، فضلا عن التجاهل، أو التهوين الفعليّ، من جرائم المستوطنين المسلَّحين، والمحميّين بقوّات الاحتلال ضدّ الفلسطينيّين العزَّل، ومن جديد تلك الجرائم التي تركت أثرا دفينا في نفوس الفلسطينيّين حرقُ أسرة دوابشة، في دوما، قرب نابلس.
وفي المحصِّلة، ليست المشكلة في الإدانة، فقد أدان عباس حرق قبر يوسف قرب نابلس، وأمر بالبدء بإصلاح الأضرار، مع أن زوّارها من المستوطنين الذين يتعمّدون التشبُّث به؛ لأغراض احتلاليّة واضحة، بالذريعة الدينيّة. ومهما كان من إدانة صريحة، أو ضمنيّة، فإن الأمور تنجرف نحو مواجهة أشدّ خطورة، في قلب بؤرة الصراع، وهي القدس. والمسجد الأقصى، ببعده الدينيّ، وحمولاته التاريخيّة، شعلة هذا الصراع؛ ما قد يهدّد، على عجل، قواعدَ اللعبة كلّها. وهنا، لم تفلح سياسات الاحتلال في تخريب الشباب الفلسطينيّ المَقْدسيّ بالمخدِّرات، وإجراءات التضييق المُحبِطة، بل إنها ارتدّت بنتائج عكسيّة لم تكن متوقّعة.
وسواء استمرّت هذه الموجة وتصاعدت، أو خفت أوارُها، فإنها كشفت عن تصدّع كبير في هذا المشروع الصهيونيّ، وما قد يجرّه إليه سوءُ التقديرات، والتهوّر في وتائر التهويد، استناداً إلى الوضع العربيّ المهلهل الذي هو سيف ذو حدّين، حين تتعمّق الصراعات الدمويّة، وتهتزّ سيطرة الحكومات العربيّة المركزيّة، ولا سيّما تلك المجاورة لفلسطين، والقريبة منها.