إنّها مدينتي التي احتضنتني، كيف أفلتها الآن؟

إنّها مدينتي التي احتضنتني، كيف أفلتها الآن؟

04 اغسطس 2021
ليس دفاعاً عن مدينةٍ، يعيش سكّانها بالتحايل على الموت، كلّ لحظة (عبد الرحمن الداية)
+ الخط -

حين شاهدت مرفأ بيروت، العام الماضي، بعد أيام من الانفجار، كنت كمن يواصل مشاهدة لقطات صور وفيديوهات لما حصل، ولم أقتنع أنّ ما أراه أمامي حقيقي. هذه ليست صورة. هذا ليس فيديو. ربما لأني لم أستوعب أنّ الكارثة كانت قريبة منّي إلى هذا الحد. هذه ليست المصيبة، ولا المجزرة الأولى في البلاد، لكنّي لم أكن يوماً قريبة منها إلى هذه الدرجة.

انتهت الحرب الأهلية اللبنانية قبل ولادتي، وكذلك الاجتياح الإسرائيلي. حين ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة قانا، كنتُ في الثالثة من العمر. المجزرة في ذاكرتي صُورٌ ولقطات في النشرات الإخبارية. خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، كنتُ بعيدة نسبياً عن المناطق المستهدفة. غلبتني الحماسة حينها للاختلاط بالمهجرين، الذين فرّوا من الحرب إلى ضيعتي البقاعية. أقول الحماسة، لأنّ هذا فعلاً ما أتذكّره. لم أكن خائفة أو حزينة. كنتُ متحمّسة. خلال اعتداءات 7 مايو/ أيار عام 2008 على بيروت كنت أيضاً بعيدة. في تظاهرات انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 كنتُ غاضبة وحزينة وسعيدة ويائسة ومتفائلة. لم أكن خائفة. ليس لأنّه لم يكن هناك أيّ داعٍ للخوف، إذْ كنتُ مُدركةً تماماً أنّ احتمالات فقء العيون، وحتى الموت، واردة. لكنّي لم أكن خائفة.

لكنْ، في انفجار الرابع من أغسطس/ آب، خفتُ. هذه المرّة الأولى التي يكون فيها الموت قريباً منّي إلى هذا الحد. خفتُ على كثيرين أعرفهم ولا أعرفهم. خفتُ ممّا حصل، وممّا سيحصل، أياً كان. خفتُ على مدينتي بيروت، التي حاولتُ كثيراً أنْ أكرهها، ولم أستطع.

موقف
التحديثات الحية

قبل الانفجار وبعده، بيروت هي مدينتي الوحيدة في الدنيا. هذا الكلام ليس لرمنسة المدينة، ولا لرثائها، ولا للدفاع عنها. ليس دفاعاً عن مدينةٍ يعيش سكّانها بالتحايل على الموت، كلّ لحظة. ليس دفاعاً عن مدينةٍ، يهلك أفرادها إذا ما تخلّوا لحظةً عن خيالهم. ليس دفاعاً عن مدينةٍ، شهدت حروباً ومجازر كثيرة. ليس دفاعاً عن مدينةٍ، قال عنها توماس فريدمان إنّها "الركن الأشدّ قتامة في السلوك البشري. أدغال مدينية لا يطبّق فيها حتّى قانون الغاب". ليس دفاعاً عن مدينةٍ، لا مكان للحقيقة فيها أبداً.

لكنّها بيروت. وبيروت مكانُ التجارب الأولى في حياتي. وفيها فرحتُ، وبكيتُ، ورقصتُ، وأحببتُ، وصرختُ، وتعبتُ، ويئستُ. فيها صنعتُ صداقات، وفيها خسرتُ صداقات. فيها خيباتي وانتصاراتي، ووسطهما أيامي التي لا أخيب فيها، ولا أنتصر. فيها عشتُ بكلّ ما في العيش من حلاوة ومرارة.

هذه مدينتي، أقول دائماً. لا أنتظر الفرص لأغادرها في العطلات، فما بالك بالهجرة منها؟ أشتمها طبعاً، وأسأل نفسي كثيراً: ما فيها حتّى أحبّها أصلاً. لكنّها مدينتي. إنّها في عيوني "مدينة العالم"، كما وصفها ربيع جابر. وأنا كنتُ صفراً كبيراً تائهاً، قصدتُها، فاحتضنتني. كيف أفلتها الآن؟

المساهمون