كيف لم ينتهِ العالم؟

كيف لم ينتهِ العالم؟

03 اغسطس 2021
لا هذه مدينتي ولا هذه بلادي (فرانس برس)
+ الخط -

هل مرّ دهر أم ساعة أم لحظة؟ متى كان الانفجار، أي رابع من آب؟ لا أذكر إطلاقاً. تبدو ذكرى بعيدة، علقنا فيها ولم نخرج. لحظة انتهى فيها كل شيء. انفجرت بيروت وبقينا نحن هناك، ندور في دائرة مغلقة، عاجزين عن إيجاد مخرج.
كل ما تلا تلك اللحظة كان سراباً: استقالة رئيس حكومة، تكليف آخر، تجاذب وتراشق اتهامات، قتل في الطرقات، طوابير البنزين، انقطاع الكهرباء، أطفال بلا حليب ولا دواء، رفع الحصانات، عدم رفع الحصانات، زفاف ابنة نائب، فيروس كورونا، وزارة المالية للشيعة، السوق السوداء، الدولار عشرون ألف ليرة... كيف استمّرت الحياة بهذه البلادة؟ كيف لم ينتهِ العالم؟ كيف بتنا ننظر إلى مدينتنا، وحيواتنا، إلى كل تلك الدماء والأشلاء، كأننا ننظر إلى معرض معاصر من خلف فترينة؟ كيف استيقظنا في اليوم التالي وعدنا إلى عملنا وانشغالاتنا؟ كيف أعلنّا نهاية علاقتنا بهذه البلاد، بهذه المدينة؟ كيف صمتنا حين قالوا لنا إن نتائج التحقيق ستظهر بعد 5 أيام؟ كيف مشينا في جنازات كثيرة ولم نغضب؟ كيف عدنا إلى مكاتبنا المدمّرة، والدماء لا تزال في الطرقات والجدران؟ كيف عادت الحياة إلينا نحن أموات 4 آب الذين حالفنا الحظّ فلم تتطاير أشلاؤنا فوق ركام المدينة؟ كيف تعايشنا كل هذا الوقت مع ذنب نجاتنا من الموت؟ كيف لم نعلّق المشانق ليلة 4 آب؟ كيف لم نحصِ رقماً نهائياً لعدد الضحايا؟
من شباك مكتبي، أنظر إلى المرفأ، لا أذكر شكله إطلاقاً قبل الدمار، يبدو هذا منظره الطبيعي منذ الأزل. أهراءات واقفة وحولها ركام لا متناهٍ، وسفن تُفرغ حمولتها فوق هذا الركام. أنظر إلى الحياة التي عادت تحيط بالمكان، لا هذه مدينتي، ولا هذه بلادي. لحظة انفجار النترات، انتهت علاقتي بلبنان. لا أريد لأطفالي أن يكبروا هنا، لا أريد لزوجي أن يقود سيارته في هذه المدينة، لا أريد لإخوتي أن يرتادوا مطاعم هذه المدينة. أريد أن أحملهم جميعاً داخل حقيبة كبيرة، وأنقلهم بعيداً جداً، إلى بلاد أخرى، لا أخاف فيها أن يخرج أحدهم ولا يعود. أو أن أخرج أنا ولا أعود، أو لا يعثر أحد على أشلائي، أن تبكي أمي فوق تابوت فارغ.
لم يقتل انفجار 4 آب بيروت. كان فقط إعلاناً لهذا الموت، إعلاناً مدوٍّياً، لموت بطيء تسلّل إليها منذ عقود. ماتت بيروت ربما عندما أطلقت أول رصاصة معلنة انطلاق الجولة الأولى من الحرب الأهلية. ماتت حين تحوّل قلبها إلى شركة خاصة، ماتت في 7 مايو/أيار 2008، ماتت حين أقفلت الصحف، وهاجر أهلها... أي مدينة هذه التي تفتح ذراعيها لكل أنواع العنف والقتل؟
هل مرّ دهر أم ساعة أم لحظة؟ متى كان الانفجار، أي رابع من آب؟ لا أذكر إطلاقاً. يقولون إنّ عاماً مرّ، وإن سكان المدينة سينزلون غداً إلى الشوارع. حظاً موفقاً للجميع. لا هذه مدينتي ولا هذه بلادي.

المساهمون