على نفسها جنت براقش

على نفسها جنت براقش

28 أكتوبر 2018
+ الخط -
تقتضي السياسة قدرا من الحكمة والحصافة، تجعل من صاحب السلطان يفكّر في عواقب الأمور، وتكون خطواته محسوبةً وفق منطق عقلاني، يجنّبه الوقوع في الكوارث، أو الخضوع للمساومات والضغوط. ولا يتعلق الأمر بطبيعة الحكم فحسب، فقد نجد دولا غير ديمقراطية يمارس حكّامها نمطا من ضبط النفس، واختيار الأمثل في أثناء اتخاذ القرار. وإذا لم يكن خدمة للشعب فعلى الأقل خدمةً لاستمرار الحاكم نفسه في السلطة. ليس الحديث هنا عن مزاولة السلطة في نظام ديمقراطي، حيث توجد رقابة على السلطة وحرية إعلام يحسب لها صاحب السلطان ألف حساب، ما يجعله أكثر انضباطا في إدارة أزماته السياسية، وأكثر اعتمادا على الحوار في تجاوز الخلافات الداخلية.
لهذا كانت الأنظمة الاستبدادية أكثر وقوعا في التجاوزات والأخطاء، والتي تكون لها آثار سلبية على الأوطان والشعوب التي كانت مغيبةً عند اتخاذ القرار، لكنها تدفع الثمن باهظا من استقرارها ومواردها، من أجل تجاوز نزواتٍ سلطويةٍ للحاكم المطلق، فأسئلة المراقبين اليوم عن غرابة ما جرى في القنصلية السعودية لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار العام لممارسات النظام السياسي نفسه. بل وتعود غالب القرارات إلى ميولٍ شخصيةٍ مضطربة للحاكم (مهما كان لقبه)، فإذا كان منطق تصفية المعارضين سحلا وقتلا ورميا في السجون سائدا في أنظمة الاستبداد العربي، فإن امتداد هذه الممارسات إلى الخارج يفضح صورته التي ينفق الحاكم على تحسينها أمام الرأي العام الدولي.
ليست تصفية الكاتب، جمال خاشقجي، بطريقة بشعة، موطن الغرابة الوحيد في الممارسة 
السياسية لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، فخاشقجي ليس الضحية الأولى لهذا النظام، وإنما المشكل هو الاضطراب السياسي الذي رافق التغطية على الجريمة وتبريرها، وقبلها في اختيار زمان اقترافها ومكانه، فمستوى الغباء الذي رافق تنفيذ عمليةٍ قذرةٍ، ما جعلها تنكشف في وقت قياسي، يجعلها نموذجا دراسيا لفهم طبيعة الشخصية الاندفاعية المتهوّرة والنزقة التي تميز ولي العهد، وإلا كيف يمكن تقدير مستوى الخسائر السياسية التي رافقت تصفية خاشقجي، والتي لم يكن هذا الكاتب قادرا على إلحاقها بالنظام لو ظل حيا.
ارتدادات جريمة الاغتيال التي يدرك صانعو القرار الغربي أنها تمّت بقرارٍ من أعلى مستوى، ولا يمكن لغير حاكمٍ مطلق الصلاحيات الأمر بتنفيذها، وتسخير الإمكانات اللوجستية لإتمامها، هي التي أثارت كل ردود الأفعال لدى أنظمةٍ غربيةٍ، اعتادت التغاضي عن ممارساتٍ شبيهةٍ تتم في أنظمة استبدادية، لكن الجميع كان يتكتم عليها، بل وقد يضطر إلى التغاضي عنها خدمةً لمصالح اقتصادية وسياسية. ولنا في قضية اغتيال الإيطالي، جوليو ريجيني، في مصر خير مثال. وفي الوضع الحالي، كان صعبا أن تتجاهل الأنظمة الغربية ما جرى في القنصلية السعودية، وهي التي وجدت نفسها تحت ضغط إعلامي غير مسبوق، واستنكار عالمي واسع.
الآن، وقد تورّط بن سلمان في جريمة اغتيال بشعة، لم يكن مدركا عواقبها على استمرار 
حكمه، فقد وجد نفسه مجبرا للخضوع لمزيد من الابتزاز المالي، والتخلي عما تبقّى من سيادةٍ وطنيةٍ لإرضاء قوى دولية نافذة، وجدت الفرصة سانحةً لمزيد من التحكّم فيه، وتحويله إلى أداةٍ طيعةٍ تنفذ مطالبها من دون تأخير. إنها معضلة الطاغية، حين يستبدّ برأيه، ويتصوّر نفسه في نوعٍ من هستيريا جنون العظمة أنه الحاكم الفعلي لكل العالم من دون رقيب أو حسيب. وهو أمر كان واضحا منذ البداية في الأزمات السياسية التي افتعلها منذ وصوله إلى الحكم، بدايةً من غزو اليمن ومرورا باعتقال كل المعارضين، أو حتى المنافسين المحتملين، وليس انتهاءً بأزمةٍ سياسيةٍ مفتعلةٍ مع الجارة قطر. وها هو اليوم يدفع ثمن تهوّره السياسي نتيجة جريمة اغتيالٍ لا مبرّر لها، سوى تصفية كاتبٍ مسالم، كان ينتقد النظام من دون أن يتحوّل معارضأ مطلقا. وسيكشف المستقبل عن أثر هذه الخطايا السياسية، حتى وإن نجا محمد بن سلمان من الأزمة الحالية، فإنه فقد كل مظاهر الحاكم الجديد الذي يريد التغيير، ليحمل لقب "السيد منشار العظام"، كما سخرت منه وسائل إعلام أميركية وأوروبية.
أليس الطغيان هو الخطيئة الأولى التي تنتج عنها كل الخطايا والكوارث؟ وما الذي سيخلده التاريخ لحاكمٍ تورّط في جرائم شنيعة، واقترف أخطاء كبيرة غير قابلة للتدارك إلا بتنحّيه عن السلطة؟ ولماذا تدفع الشعوب دائما ثمن نزق حكامها وافتقارهم الحكمة والدراية؟ محمد بن سلمان نموذج لصعود الحاكم الطاغية الذي لا يدرك حدود الممارسة السياسية، ويتعامل مع الأحداث بعمىً سلطوي ناجم عن النفاق الذي تغدقه عليه جوقة المنافقين والمدّاحين التي يحيط نفسه بها، وقديما قيل "من استبدّ برأيه عميت عليه المراشد".
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.