أزمة النخبة السياسية في تونس

أزمة النخبة السياسية في تونس

05 نوفمبر 2016
+ الخط -
لاتزال حالة المخاض التي تعرفها تونس في انتقالها الديمقراطي، وإعادة هيكلة البنية السياسية للدولة مستمرة للخروج من البنية الاستبدادية المتوارثة، والتي هيمنت على البلاد عقوداً من سيطرة حكم الحزب الواحد والزعيم المطلق. وإذا كان من الممكن تثمين الخطوات التي قطعتها البلاد بتنظيم محطات انتخابية تعددية، وإقرار دستور يحفظ الحقوق والحريات، فإن عقبات كثيرة لاتزال تعطل مسيرة الإصلاح، وتضع عراقيل كثيرة أمام إيجاد البيئة السياسية المناسبة التي تضمن استمرارية الوضع الديمقراطي الناشئ إثر ثورة 2011.
وإذا كانت المشكلات الاقتصادية والأمنية هي من قبيل القضايا المعتادة لدولة نامية هي جزء من محيط دولي وإقليمي متوتر ومضطرب، فإن أزمة الوعي السياسي، إن صح التعبير، تظل المشكلة الأكثر خطورة وتأثيراً على مستقبل المسار السياسي في تونس. فالممارسة الديمقراطية تستلزم حضور نخبةٍ سياسية واعيةٍ ومؤمنةٍ بأهمية التحولات السياسية مع ما يفترضه الأمر من مراجعة مسلمات فكرية كثيرة تحكم النخبة السياسية في تونس، وتشكل البنية العميقة التي تنجم عنها كل الأعراض المختلة في المشهد الحزبي والحكومي التونسي. فما طبيعة أزمة النخبة في تونس، وما هي نتائجها وآثارها على الواقع السياسي في البلاد؟
يمكن القول إن مصطلح النخبة لا يعني التميز أو التمتع بقدرات قيادية، تجعل أصحابها في موقع أهم من باقي الجمهور. وبتعبير أوضح "لفظة النخبة، هنا، لا يعني الصفوة، ولا تشي بالضرورة بالرقي والتحضّر، بل يُشتَق بالمكانة والتأثير"، كما يقول المفكر العربي عزمي بشارة، فالنخبة السياسية النافذة في تونس، والتي تحتل مواقع الصدارة، سواء في السلطة أو المعارضة، هي في الواقع أقرب إلى مجموعات مصالح، تتبادل الدعم وتتقاسم الريع والمغانم، وكما استفاد بعضها من مرحلة الاستبداد، فإن بعضاً أخيراً يحاول مراكمة مصالحه زمن ما بعد الثورة، وكثير من هؤلاء هم من الذين اقتاتوا على موائد الدكتاتور.
وأهم ملامح هذه النخب السياسية المتنفذة هي حالة الفصام التي تعانيها بين استفادتها من الوضع الديمقراطي، الناشئ بفعل الثورة الشعبية لسنة 2011، وفي الوقت نفسه، عدم إيمانها
بالديمقراطية في حد ذاتها، بوصفها الآلية الأمثل للوصول إلى السلطة وتداولها. "فقط أقلية في أوساط هذه النخبة قبلت العملية الديمقراطية، وما تأتي به من نتائج، أو على الأقل فكرة تقاسم السلطة والقبول بشركاء جدد مختلفين". كما يقول بشارة، فبعض هؤلاء لايزال في مرحلة "الحنين" إلى زمن الاستبداد. وعلى الرغم من تموقعه في مجال الإعلام، أو في أوساط الحكم، بعد الثورة، فإنه يواصل تشويه مُنجز 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وتصويره أنه مؤامرة استهدفت الدولة، وأطاحت الحاكم الذي يعتبرونه شرعيا على الرغم من استبداده. وفي المقابل، فإن نخبا أخرى تتموقع في المعارضة تؤمن بمقولات من قبيل "الدكتاتور الوطني"، وتدافع عن أنظمة استبدادية متعفنة، من قبيل نظام بشار الأسد في سورية، بل ووصل الحال ببعض هؤلاء المحسوبين على النخبة إلى حد تأييد النظام الطائفي في العراق، وزيارة نوري المالكي، وكأنما الديمقراطية التي يعيشها هؤلاء في تونس مجرد فاصل، يمكن التخلص منه عندما تتاح الفرصة لعودة نمط الحكم القائم على الطغيان.
وقد أحدثت حالة الفصام هذه المتراوحة بين حالة انتقال ديمقراطي في البلاد ورغبة ثاوية في نفوس هؤلاء وحنينهم لنظام استبدادي يرونه المخلص من الأزمات إلى حالة انفصال عن الجمهور، لتنشأ صورة غريبة من القطيعة بين ما يمكن تسميتها حركية النخبة مقابل حركية الجمهور، وهي وضعية نجد صداها في عجز هؤلاء عن التواصل مع الناس أو الانخراط العضوي في النشاط المجتمعي، الأمر الذي حول هؤلاء النخبويين إلى مجموعات منبتة عن واقعها، منفصلة عن الحراك الجماهيري الذي أسقط النظام الاستبدادي. "في هذه الظروف، عبّأت النخب المعارضة الشارع ضد خصومها من المعارضة، لكنها لم تكسب ثقته، بل أعدّته لقبول عودة النظام القديم" في توصيف رائع لعزمي بشارة.
فأجزاء واسعة من النخبة السياسية التونسية اليوم تمارس الديمقراطية من خلال منطق التعايش بالإكراه، وهي تلجأ إلى الانتهازية في أقصى صورها، من أجل إقصاء خصومها
الإيديولوجيين، وهو ما يجعلها على استعداد للتخلي عن مواقعها والمرور للتحالف مع رموز النظام القديم. وتثبت الوقائع أن مستوزرين في حكومة الباجي قائد السبسي اليوم كانوا ممن يعتبرونه عدواً، بل ويطالبون بمحاكمته على خلفية ممارساته اللاديمقراطية عندما كان شريكاً في السلطة زمن حكم الحزب الواحد. فالنخبة السياسية بصورتها الحالية تعاني عقما فكريا وعجزا سياسيا وقصورا واضحا تجلى في عدم قدرتها على الإصلاح أو على تقديم البدائل القادرة على تحقيق النهوض المجتمعي الذي بات ضرورة وطنية في المرحلة الحالية. والمعروف أن غالبية النخبة الحزبية أو الإدارية المتنفذة اليوم هي ممن تربى في ظل الاستبداد ومارس السياسة بذات العقلية الإقصائية التي غرسها نظام الطغيان، الأمر الذي جعلها تفقد ثقة الجيل الجديد، وتتحول إلى مجرد تابع للنظام القائم، وكأنما هي تحاول إعادة إنتاج التخلف السياسي للحفاظ على مصالحها ومواقعها، ما يعني أنه لا يمكن أن ننتظر منها شيئا، بقدر ما تحولت هي بذاتها إلى عائق أمام تحول ديمقراطي حقيقي يفي بوعوده ويقطع مع الماضي، لبناء مستقبل سياسي، يسع الجميع ويمنح الفرصة للجيل الجديد لإعادة بناء الوطن بصورة أفضل.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.