العدوان الصهيوني والصمت العربي

العدوان الصهيوني والصمت العربي

25 يناير 2024

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

لا يمكن إنكار حالة التضامن الشعبي الواسعة التي عرفها الشارع العربي مع بدء العدوان الصهيوني على غزّة، ويمكن ملاحظة ردود الفعل القوية والناقدة مواقف الحكّام العرب أو شخصياتٍ عامة من فنانين ورياضيين وكتّابٍ لم تكن مواقفهم ترقى إلى مستوى اللحظة ولا تستجيب للمزاج العربي العام المنحاز إلى القضية الفلسطينية، ولعبت مواقع التواصل الاجتماعي في هذا السياق دورا مهما في تشكيل توجه شعبي مناهض للعدوان الصهيوني ومتعاطف مع المقاومة الفلسطينية. غير أن هذا التوجّه العام على أهميته لم يكن سوى نوع من التعاطف في حدّه الأدنى، أعني لم يمتلك ما يكفي من الفاعلية والتأثير ليغيّر مواقف الأنظمة الرسمية العربية أو يدفع نحو تجسيد التعاطف في مبادرات فعلية ترفع الحصار عن أهل غزة وتساهم في وقف العدوان الصهيوني المتواصل.

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر، ينبغي طرح السؤال بشأن خفوت صوت الشارع العربي بشكل تدريجي، وتحوّله إلى منطق الفرجة والتأييد على شاكلة جمهور الكرة أكثر مما هو رأي عام فعلي بمعناه السوسيولوجي، أي هذه القوة الشعبية القادرة على إجبار الحكومات على اتّخاذ مواقف حقيقية والخروج من دائرة البيانات اللفظية أو التوقّف عن مواقفها اللامبالية، حتى لا نقول المتآمرة إزاء ما يجري في غزّة.

يفسّر توصيف الوضع العربي الحالي حالة الانكماش لدى الجماهير العربية، والتي تعود إلى أسبابٍ مختلفة، أبرزها ضغط الأنظمة السلطوية الحاكمة، والتي تحرص على قمع الشارع ومنعه من التعبير عن ذاته، خصوصا بعد تجربة الثورات العربية الموؤودة، والتي أوجدت حالة من التوجس لدى الأنظمة الرسمية، وجعلتها تحاول إخماد أي نفسٍ تحرّري لدى الشارع، حتى في نصرته القضية الفلسطينية، وقد توخّت هذه الأنظمة أسلوبين في خداع الشارع والتلاعب بالجماهير، إما بالظهور بمظهر المدافع عن الفلسطينيين من خلال التصريحات والشعارات من دون المرور إلى مرحلة الأفعال التي تقدّم دعما حقيقيا لأهل غزّة، أو من خلال إغراق الجمهور في الحفلات ودفعه إلى اللامبالاة إزاء ما يجري لأشقائه الفلسطينيين.

حالة الصمت العربي ستتواصل من دون أن يعني هذا نفي حالة الترقب في الشارع العربي إزاء العدوان الصهيوني ومواقف الأنظمة المتخاذلة والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية

وما زاد في ضعف الموقف العربي تجاه العدوان الصهيوني حالة الانقسام العربي الشامل، ففي المرحلة الراهنة حتى التضامن في حدّه الأدنى مفقود. بل ثمّة تمزّق عربي يمتد من العداء وصولا إلى العزوف والابتعاد عن القضية الفلسطينية. والحقيقة أن النفوذ الغربي المسيطر على السياسات العربية، المقترن بشعورٍ ضمني بالعجز العسكري أمام الكيان الصهيوني أضعفا، إلى حدٍّ بعيد، الشعور بالحاجة إلى التضامن العربي. وأصبح التمزّق العربي ورقة رئيسية في يد الكيان الصهيوني. ولسنا بحاجةٍ إلى كثيرٍ من النباهة لنلاحظ الصراعات التي تشقّ الدول العربية بين الأنظمة في ما بينها (نموذج الصراع المغربي الجزائري) أو الحرب الأهلية في دولٍ مثل السودان وسورية، وإلى حدٍّ ما ليبيا، أو الاتجاه إلى قمع المعارضة الداخلية كما يجري في تونس ومصر، وانتهاء بدولٍ تكاد تصطفّ مع العدو.

يميل النظام السياسي والمؤسّسي العربي إلى الانفصال عن المجتمع، والقادة السياسيون قد يشبهون المواطنين وقد لا يشبهونهم، وقد يأخذون أو لا يأخذون في الاعتبار رغبات مواطنيهم، لكنهم، في كل الأحوال، يقرّرون وحدهم وإرادتهم تتطابق مع القانون. وهو ما يعني عملياً اختفاء "إرادة الشعب"، أيًا كان المعنى الدقيق الذي يُعطى لهذا المفهوم، هو جزءٌ من سياقٍ أكثر عمومية بكثير، بمعنى إن الأنظمة لم تعد تسعى إلى إرضاء شعوبها أو الاستجابة إلى تطلّعاتها، ولو ظاهرياً. وفي المقابل، أصبحت الشعوبُ تميل إلى الأساليب الأكثر أمناً والأقلّ كلفة في مواجهة توجّهات الحكام، وبالتالي، الاكتفاء بالتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يفسّر، إلى حدّ ما، حالة الصمت التي أصبح يشهدها الشارع العربي وغياب المظاهرات المؤيدة لفلسطين الضاغطة على الأنظمة الحاكمة، رغم أن بداية العدوان الصهيوني صاحبتها تحرّكات جماهيرية لا يمكن إنكارها في دول عربية شتى.

وإذا أخذنا بالاعتبار غياب دور الأحزاب والمنظمّات الجماهيرية التي فقدت "الوظيفة التجميعية"، أي القدرة على تعبئة الجماهير وتأطيرها، مضافا إليها الدور المحتشم لما تُسمّى النخبة، يمكن التأكيد أن حالة الصمت العربي ستتواصل من دون أن يعني هذا نفي حالة الترقب في الشارع العربي إزاء العدوان الصهيوني ومواقف الأنظمة المتخاذلة والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، وهي عواملُ مجتمعة قد تتحوّل إلى قادح لزناد ثورات عربية جديدة تخشاها الأنظمة ولا يمكن توقع ما يمكن أن تفضي إليه مستقبلا.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.