عن النيجر وإنهاء الوجود الأميركي

عن النيجر وإنهاء الوجود الأميركي

23 مارس 2024
+ الخط -

بعد إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في نهاية عام 2023، ثم البعثات الأوروبية، يبدو أنه جاء الدور على القوات الأميركية لتغادر النيجر، فقد قرّرت الحكومة العسكرية إنهاء العمل باتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. وفي البيان الصحافي الذي بثه التلفزيون الوطني، أكّد الناطق باسم حكومة النيجر أن الوجود العسكري الأميركي "غير قانوني" و"ينتهك جميع القواعد الدستورية والديمقراطية". وبحسب نيامي، جرى فرض هذا الاتفاق الموصوف بـغير العادل "من جانب واحد" من الولايات المتحدة، عبر "مذكّرة شفهية بسيطة"، في 6 يوليو/ تموز 2012.

يشكّل هذا الرحيل القسري نكسة كبيرة لواشنطن التي كانت، حتى ذلك الحين، تصالحية للغاية مع المجلس العسكري، فقد حاول الطرف الأميركي أن يواصل نمط تعامله السياسي مع الأنظمة الانقلابية في أفريقيا متصوّرا أن أفضل ما يمكن القيام به هو الحفاظ على الشراكة مع الانقلابيين، على أمل تشجيع الإصلاح التدريجي مع مرور الوقت، ويبدو أن هذه الوصفة الدبلوماسية لم تنجح في النيجر.

للولايات المتحدة مصلحتان استراتيجيتان في النيجر: قاعدة للقوات الجوية الأميركية في أغاديز وأخرى لوكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي في ديركو قريباً من جنوب ليبيا. ويبدو أن الأميركيين قد تفاوضوا على صيانة هاتين القاعدتين مع الانقلابيين. أما وقد قرّرت الحكومة العسكرية إنهاء أي تعاون عسكري مع الأميركيين فهذا يعني أن على الولايات المتحدة إعادة تنظيم وجودها في أفريقيا في ظل حالةٍ من الصراع الحاد مع الطرف الروسي الذي يتمدّد تدريجيا في القارّة.

على الولايات المتحدة إعادة تنظيم وجودها في أفريقيا في ظل حالةٍ من الصراع الحاد مع الطرف الروسي الذي يتمدّد تدريجيا في القارّة

لقد ساهمت عوامل متشابكة في تأجيج العداوة للغرب، الذي فشل في تقديم مساعدة حقيقية للدول الأفريقية، واكتفى بالتعامل معها بوصفها مجالاً للنفوذ والسيطرة على الموارد الطبيعية، فيما ظلت الأوضاع تتفاقم في دول أفريقيا جنوب الصحراء. بالإضافة إلى الوباء الذي أثر بشكل عميق على هذه البلدان، فقد أدّى تآكل السلطة والتهديد الأمني إلى إحداث الظروف الملائمة لزعزعة الاستقرار السياسي. وكان الخطأ الغربي المتكرّر هو الرهان على حكومات موالية لا تملك قرارها وعاجزة عن تلبية احتياجات شعوبها.

إنه بالفعل هوسٌ غربيٌّ دائم يجعلها تتصوّر أن بإمكانها مواصلة السيطرة على الفضاء الأفريقي، من دون أن تتوقّع ظهور نزعات مناوئة لها تسعى إلى الانفصال عنها سياسيا وعسكريا، والانحياز إلى قوى أخرى، في مقدمها الطرف الروسي. وبطبيعة الحال، بالنسبة للانقلابيين، السردية المناهضة للغرب، وفي مقدمها فرنسا ثم الولايات المتحدة، وسيلة ناجعة لاكتساب المزيد من الشعبية، لأن إثارة المواضيع الوطنية والسيادية تنجح دائماً. وإذا كان من الصعب إجراء استطلاعات رأي لقياس شعبية حكومة ما في هذه البلدان، إلا أنه من المؤكد أن قضايا السيادة الوطنية والتحرّر من التدخل الغربي قد ساعدت هذه الأنظمة العسكرية على تبرير مواقفها ونيل تأييد شرائح واسعة من مواطنيها.

انحسار النفوذ الأميركي في أفريقيا جنوب الصحراء بداية من النيجر لا يعني أبدا الاستقرار أو نهاية الصراعات في المنطقة، وإنما هو حلقة جديدة من النزاع بين القوى الكبرى

الانقلابات في نهاية المطاف حسابات باردة للفوائد مقابل التكاليف، والفوائد مذهلة (القوة والوصول غير المحدود إلى موارد الدولة). ولذلك سيظلّ إغراء الانقلاب موجوداً دائماً. ومن المرجّح أن تعتبر الجوانب السلبية المحتملة، الفشل أو السجن، قابلة للتحكّم بالنسبة للجهات العسكرية غير المقيدة في ظل إدارة مدنية شكلية. باختصار، أولئك الذين يقومون بالانقلابات يفعلون ذلك لأنهم يعتقدون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب بكلفةٍ زهيدة.

من الناحية الموضوعية، ومن وجهة نظر دفاعية وأمنية، العرض الروسي أقلّ جاذبية بكثير من العرض الغربي، ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن أيضاً من فرنسا والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، تقدّم روسيا شيئاً لا تقدّمه الدول الغربية، إنه إمكانية بقاء هذه الأنظمة الانقلابية في السلطة، وتوفير نوعٍ من الحرس الرئاسي، ولكن أيضاً القدرة على محاربة الجماعات الجهادية بطريقة أكثر حرية، من خلال عدم احترام القواعد نفسها كما لو كانت تعمل مع فرنسا أو الولايات المتحدة.

انحسار النفوذ الأميركي في أفريقيا جنوب الصحراء بداية من النيجر لا يعني أبدا الاستقرار أو نهاية الصراعات في المنطقة، وإنما هو حلقة جديدة من النزاع بين القوى الكبرى. ومنذ الاستقلال اضطرّت جميع بلدان القارّة الأفريقية للتحالف إما مع الكتلة الشرقية أو الغربية، وهي حالياً تعيد السياسات نفسها القائمة على الانحياز إلى قوى كبرى من خارج القارّة، وقد أعاقت هذه التحالفات كل الجهود الرامية إلى تعزيز التعاون والتنمية، وسيستمر تجاهل الحكّام المستبدّين على أفضل تقدير ودعمهم على أسوأ تقدير، وأحياناً ما كان أولئك الذين يرفضون التعاون يختفون أو يُهمّشون، وهذا هو الجانب المظلم من مأساة أفريقيا.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.