النَّزَق حين يكون تدميريّاً

النَّزَق حين يكون تدميريّاً

06 يوليو 2017
+ الخط -
صرّحت سفيرة الولايات المتحدة، نيكي هالي، قبل أيام، أنَّ مقاطعة دول عربية قطر فرصة لواشنطن لضرب السعودية وقطر معا؛ لتحصل على أكثر ما نريد (قالت أمام "إيباك" مرة: أرتدي حذاء ذا كعبٍ عال، ليس من أجل الموضة، ولكن لركل أيّ شخصٍ يوجه انتقاداً خاطئاً لإسرائيل).
وبعد أن نشر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مقطع فيديو أرشيفي مُعدَّلا يَظْهَر فيه يضرب رجلا غطّى وجهه بشعار CNN، غرّد ترامب أن ما يجري في الشرق الأوسط مثير وممتع.. فهل ينسحب هذا الإمتاع والإثارة على مجريات الأزمة الخليجية؟
في أميركا، حيث ثمّة كوابح تحُول دون استفراد الرئيس الذي هو على قمّة السلطة التنفيذية بالقرار؛ فيصعب أن تنسحب هذه الحالة النَّزَقيَّة على مجمل مفاصل الدولة وقراراتها، لكن الخشية بالطبع أكبر في منطقتنا العربية، إذا ما طَفَتْ على السطح الحالة الانفعالية الطائشة، لا قدّر الله، إذ بلادٌ دُمّرت؛ نتيجة قراراتٍ، أو تقديراتٍ خاطئة، من شخصِ الزعيم الأوحد، كما في عراق صدام حسين، وكما في ليبيا معمر القذافي، مثلا.
ومن أسفٍ أنك واجدٌ هذه الروح النَّزَقيَّة تسري فيمن يُفترَض أنهم أبعدُ الناس عنها، وهم المثقفون، الأبعد عن تسارعات السياسة وإكراهاتها، والأبعد عن بريقها ومغرياتها، وَفْق المفترض، لكنها الرؤية القاصرة، والتحيُّزات المسبقة، من دون أن يكلِّفوا أنفسَهم عناء إعادة النظر، وكأن المواقف المصيرية المسؤولة تُتَّخذ بهذه الدوافع الثأرية الضيقة.
تستبدّ بهم الفذلكة المزاجية ليتمنَّوْا تصعيدا يُفضِي إلى استنزاف منطقة الخليج، وإنهاكها، وبغضِّ 
النظر عن الموقف من النُّظُم السياسية، في هذه المنطقة التي هي جزء من هذه الأمة، فإن أدنى درجات المسؤولية تقتضي القلق على مصير هذه المنطقة، ومقدّراتها؛ حتى (على الأقل) لا يقع التساوُق البغيض، بين ما تكشفه دوائرُ أميركية انتهازية، ومَن يُفترَض أنهم أكثر الناس وعيا بأساليب تلك الدولة ومخططاتها البعيدة المدى.
حين تورَّط ترامب في نشر مقطع الفيديو ذاك، ردّت شبكة CNN بأنه "يوم حزين نشهده، عندما يشجِّع رئيسُ الولايات المتحدة العنفَ ضدَّ الصحفيِّين، من الواضح أن سارة هاكابي ساندرز كذبت، عندما قالت إن الرئيس لم يقم بأمر كهذا أبداً، فعوضاً عن التركيز على رحلته على الخارج، وأول اجتماع له مع فلاديمير بوتين، والتعامل مع كوريا الشمالية، وإعداد قانون الرعاية الصحية الخاص به، ينخرط بسلوك صبياني ينحدر بأقل من مستوى كرامة منصبه. سنستمرُّ بممارسة عملنا، وعليه أن يبدأ بممارسة عمله".
جوهر الأمر هنا هو أهليَّةُ هذا الشخص لموقعه، وما يتطلَّبه من مقادير الاتِّزان والانشغالات الكبرى، إنه مؤشِّر مقلقٌ على صلاحيته ولياقته لهذا الدور، وكذلك الشأن مع (المثقفين) العرب الذين أصابتهم عدوى الطيش والخفّة، رأوْا في الأزمة الخليجية الأبعادَ الثأرية الكيدية الضيقة (؟!). وهنا ليس ثمّة أرضية للنزاع سوى دوافع بعض النظم، إذ ليست ثمة آفاق مبتغاة، (ولو حتى تسويقية) نحو الوحدة مثلا، أو مزيد من الحرية والكرامة، أو غير ذلك من قيم، إنما هي نزاعاتُ هيمنةٍ، أو نزاعاتٌ تُفضي إلى الانقسام، والتشرذم، وسط مآلات التضييق على شعوب الدول المتنازِعة، ومخاوف أن تضعف روابط الأخوة.
إنها أزمةٌ تسمح بالنَّزَعات الشوفينية لدى بعض الضِّعاف، أنْ يغَذّوا الخُطى، ويُغَذُّوا مشاعر الكراهية، وإفرازات التعصُّبات الوطنية؛ من أجل تمرير التصالح مع عدوٍّ أمْلس المَلْمَس، كما يبدو لأولئك المنطلقين من المصالح الضيقة في السعودية، أو الإمارات، أو سواهما، من أجل تسويق التطبيع مع إسرائيل، في حمأة العداوة لقطر.
فلم يكن مصادفةً تزامنُ وصْف حركة حماس بالإرهاب مع دعواتٍ علنيةٍ إلى التطبيع مع
 إسرائيل، "حماس" التي تستدعي في ذهنية الشعوب، العربية (ومنها الخليجية طبعا) معنى المقاومة للاحتلال، يُراد على أنقاض إسقاطها التطبيعُ مع الاحتلال الذي يمعن في الاحتلال والتهويد. وفي وقتٍ يكتسب فيه خيارُ الاتفاق مع الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، في غزة مزيدا من دواعي التحقُّق؛ لكي لا يكون لغزة المقاوِمة ذلك الإحراج للمهرولين إلى التطبيع، والمتساوقين مع أمنيات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره، إنَّ السلام يمكن أن يتحقَّق عربيا، قبل تحقُّقه فلسطينيا، وهذا، بلا ريب، يُسهم في تقزيم (الصفقة) التي يعلن ترامب عزمه على إبرامها، حلاً نهائيا لقضية فلسطين المزمنة.
صحيح أن الوضع العربي العام لا يدعو إلى كبيرِ تفاؤل، لكن الإخلاد إلى اليأس المتلحِّف بألحفة الوعي والنَّباهة، يدل ليس على خذلانٍ وقصورٍ عن واجب النُّصْح والتوعية الحقَّة العابرة للمواقع التي تصنع المواقف، فقط. وإنما، ولعله الأخطر، يشي بخداع المتأثرين بأولئك (المثقفين) من الجماهير، حين يوهمونهم بأن الدافع إلى هذه المواقف هو الصالح العام لهذه المنطقة وشعوبها.
وختاما، إذا كان التلاعب من ترامب وهالي، مثلا، متوقَّعا، وهو في غمار السياسة النفعية، على حساب أي منطلقاتٍ قيمية، كانت ترى أن سعادة أميركا مرتبطة بسعادة العالم والإنسانية، وأنَّ أميركا تحمل رسالة عالمية هي الديمقراطية، إذا كان هذا التلاعب في الجانب الأميركي متوقَّعا، فإنه في الجانب العربي، وفي الثقافي تحديدا، أمر بالغ الدلالة على حالة قصورٍ ويأسٍ لا تُبقي للواقعين فيها أنْ يتصدَّروا القول في الشأن العام.