الاستيطان والتحوّل الأميركي الأكثر سفوراً

الاستيطان والتحوّل الأميركي الأكثر سفوراً

13 فبراير 2017
+ الخط -
مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بهذه العقلية العنصرية، وهذه المواقف، ولا سيما المؤيِّدة لإسرائيل والاستيطان، أو الساكتة، في أحسن الأحوال، عنه، تكون رؤيةُ الطبقات الشعبية الفلسطينية والعربية التي تُطابِق بين أميركا وإسرائيل قد تأكَّدت. وستكون تلك الطبقات الشعبية على ثقة أكبر، وهي تحشر أكبر دولة في العالم، وفي العالم الغربي الديمقراطي، وأكبر دولة تحرص على ضبط المنطقة التي تقبع فيها إسرائيل بما يحقِّق مصالحها الإستراتيجية والحيوية، في الإطار نفسه، مع إسرائيل دولة الاحتلال، أكثر دولة معتدية، في أساس وجودها، وفي ضمانات استمرارها، كما أصبحت أوساطُها السياسية الدينية المتغلِّبة تعلن أن هذه المماهاة بين أميركا الراعية للعملية السياسية، والساعية، منذ عقود، وعلى يد رؤسائها وإداراتها المتعاقبة، إلى حلٍّ نهائي، وبين إسرائيل التي لم تكن طوال هذه العقود راضيةً تمام الرضى، في السرّ، أو في العلن، عن الرؤية الأميركية، المتعلقة بالمسألة الفلسطينية، هذه المماهاة تضرّ ضررا بالغا بصورة أميركا، ولا تُعْلي من قامتها.
صحيح أن البيت الأبيض حاول أن يعطي انطباعاً بامتناع إدارة ترامب عن منح حكومة نتنياهو موافقة مفتوحة على الاستيطان مستقبلا، وأن بناء مستوطناتٍ جديدة قد لا يساعد في تحقيق السلام، لكن نتنياهو، صرّح، وبعد إقرار الكنيست القراءتين، الثانية والثالثة، لـ "قانون التسوية" الذي مِن شأنه تبييض آلاف البيوت الاستيطانية المخالفة حتى للقانون الإسرائيلي، صرّح بأنه نسّق تشريع هذا القانون مع ترامب.

وأوَّلُ ما يترتَّب على هذا التحوُّل الأميركي الأكثر سفوراً نحو التطابق مع حكّام إسرائيل الذين يهرعون إلى إقفال الأبواب أمام أيِّ حلول سياسية، ولا سيما في حال استقراره على السماح المريح للاستيطان، هو إسقاط أميركا، وجوبا، من مقام الراعي الوحيد الفعلي للعملية التفاوضية، المتوقفة أصلا، وإن كان هذا الموقف يرتّب أثمانا قد تصل إلى زعزعة استقرار السلطة الفلسطينية، أو استهداف الشخصيات الملتزمة به، في حال حدوثه، وهو ما يصعب ترجيحه، بناء على معرفتنا بواقع القيادات الفلسطينية الحالية، وردودها الفعلية، منذ بدا لها عقم المسار التفاوضي الذي بدأ منذ اتفاقيات أوسلو.
حرصت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، قبيل رحيلها، على أن تمنح الموقف الأميركي الرسمي الرافض للاستيطان، وموقفها هي أيضا، مسحةً من الصِّدقية، في عودٍ منها على بدء، بالامتناع عن استخدام حقِّ النقض (الفيتو) على قرار مجلس الأمن 2334. وفي خطوةٍ أرادتها إشارةً واضحةً على خطورة المرحلة التي تردّتْ إليها الطبقةُ الحاكمة في تل أبيب، وهي تُقبل على سنِّ قانون يُشرِّع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية الخاصة، ما يسمَّى "قانون التسوية" الذي سيُشرعِن نحْوَ 55 بؤرة استيطانية، أُقيمت على أراضٍ فلسطينية خاصة، وسيُتيح مصادرة أكثر من 800 هكتار من الأراضي الفلسطينية، فضلا عن أنه خطوةً فعلية على طريق ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل. وإن كانت إدارة أوباما عادت، بعد ذلك، مسرعةً إلى الموقف الأميركي التقليدي، بتوفير الغطاء لإسرائيل، وإنقاذها من الانكشاف الدولي، أو التدويل، حين كبحت مؤتمر باريس للسلام أنْ يكون الخطوة التالية الضاغطة، بقوة، على إسرائيل.
الاستيطان جوهر المشروع الصهيوني، وهو فاعليَّته الأمضى والأهمّ، وما إنْ وَضع ترامب قدميه في البيت الأبيض، حتى قبل أن يستتبَّ له أمرُ الحكم، وقبل أن يكتمل فريقُه الحاكم، حتى بدت حركة الاستيطان، وكأنها نَشِطتْ من عِقال، علما أنها لم تكن مقيّدة قبل ذلك، لكنها الآن جَمَحتْ، فتوالت الإعلانات عن قرارات البناء، وآخرُها إعلانُ حكومة بنيامين نتنياهو عزمَها بناء ثلاثة آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، وهو الإعلان الرابع من نوعه، خلال أقل من أسبوعين، منذ تنصيب ترامب.
وفي حمأة استيطانها، تهون على إسرائيل، ولا سيما بوجهها الراهن، مسألةُ انتقال السفارة الأميركية إلى القدس، وإن كان انتقالُها يداعب أحلامها في قدسٍ موحَّدة إلى الأبد، وإن كان أيضا ينطوي على دلالاتٍ اعترافٍ أميركي باكتمال الأحلام الدينية في مركز الصراع، وعُقْدته، إلا أن الاستيطان يفرض نفسه على الأرض، ويسحب البساط، بل الأرض، من تحت أقدام الدولة الفلسطينية، هذا الاستيطان الذي يسير وَفْق خطط منهجية تبغي، في هذه المرحلة، قطع جنوب الضفة الغربية والقدس عن شمال الضفة، بإقحام مستوطنة معاليه أدوميم بضمّها إلى القدس، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها؛ الأمر الذي يوصف إعلان حربٍ على مشروع الدولتين، وإنهاء الآمال بحلِّ الصراع مع الفلسطينيين.

نعم، إن أوّل نتائج هذا التقارب الأميركي مع إسرائيل إلى حدود التماسّ، بل ربما أحيانا التجاوز، ممثَّلا في موقف السفير الأميركي، دونالد فريدمان، الذي "يؤيِّد أن يبني اليهود في كلِّ الأراضي المحتلة بعد 1967؛ لأنها (بحسب توصيفه) أرضهم"، أول نتائج هذا التقارب هو إسقاط أميركا من مرتبة الدولة الراعية إلى الدولة المنحازة انحيازا صريحا ومجحفا، لكن السؤال: ماذا بعد هذا السقوط، أو الإسقاط؟ هذا إذا أعلن، أو اعترف به، عربيا وفلسطينيا.
هل تتمثَّل مفاعيلُه السياسية في البحث عن قوة دولية أخرى؟ كروسيا، أو الاتحاد الأوروبي؟ أم وهو المعلن فلسطينيا، تمضي السلطة الفلسطينية، أو دولة فلسطين (المراقب)، إلى مزيد من التدويل؟
لا تبدو روسيا مؤهَّلة للعب دور حقيقي، ولا حتى الاتحاد الأوروبي، وقد كانا جزءاً من "الرباعية الدولية" التي هُمشِّت لصالح التفرُّد الأميركي الفعلي، إلا من أدوار أوروبية مساعِدة، اقتصادية، في الأغلب، وربما يصلح مؤتمر باريس مؤشِّرا على تواضع الآمال التي يمكن أن تعلَّق على دول أوروبية. أما المضيُّ نحو التدويل فمِن المفروغ منه أن هذه المسار ليس بسيطا؛ لكونه يتحدَّى ليس فقط إسرائيل، ولكن أميركا – ترامب، أيضا الذي حذّر السلطة الفلسطينية من مغبَّة التوجُّه الى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة إسرائيل، وفق ما نقل موقع "هآرتس" الإلكتروني الإسرائيلي. ولأن الدول الكبرى المرشَّحة للمساندة المؤثرة ليست، في الأغلب، مستعدة، أو قادرة على خوض هذه المعارك الدبلوماسية أو القانونية.
ويتطلب هذا المسار، بعد الدعم الدولي، أو قبله، ظروفا فلسطينة وعربية مواتية، أما الفلسطيني فهو يعاني ضعفين عميقين: أن السلطة نفسها مشروع جرت رعايته بأيدٍ أميركية، ولا يزال، وأن البيت الفلسطيني المنقسم، بين سلطة الضفة الغربية وحكومة حماس في غزة، يضعف من فرص المواجهة، وأدواتها.
وعربياً، فإن الانهماك العربي الرسمي، في الهموم الذاتية، لا يوفر زخماً كافياً لمثل هذه المواجهة التي لا يتوقع أن تكون قصيرة، أو ميسورة، وقد كان الموقف المصري الذي طلب تأجيل مشروع إدانة الاستيطان إلى إشعار آخر علامةً، ومجرَّد مثال، على مدى التنصُّل المعلن من المسؤولية تجاه قضيةٍ تُعَدّ في العرف المصري، الشعبي والنخبوي، في صُلْب الأمن القومي المصري، وإذا كان هذا حال أكبر دولة عربية، يطمح رئيسُها إلى تجنُّب أيّ أمر يشوّش على آماله العريضة في علاقات مسانِدة مع ترامب، فإن حال دول أخرى ليست أحسن بكثير، جوهريا.
صحيح، أن الفلسطينيين حقَّقوا (نجاحات) على الصعيد الدولي، كحصولهم على دولة مراقب، وما يعنيه ذلك من توفرهم على فرص المقاضاة الدولية للاحتلال، وكالتي توّجت جهودَهم والجهود العربية والدولية المساندة بقرار مجلس الأمن 2334 الذي لا يدين الاستيطان فقط، بل يتيح مقاضاة أيّ عمل استيطاني، بوصفه انتهاكا للقانون الدولي، بناء كان أو إنتاجا استيطانيا. لكن المضيَّ أبعد من ذلك يبقى محلَّ تساؤلات كبيرة، ولا سيما والكلُّ يعلم سطوة الولايات المتحدة على المحافل الدولية، إلا إذا سمحت المؤسسة الأميركية لترامب بالتجرّد من تلك الأدوار، وخسران تلك المحافل، وهذا تطور عميق، إن حصل سيكون غير مسبوق، وكما تراجع ترامب عن موقفٍ انعزالي شبيه بهذا الفرَض بنيويا، وهو الموقف من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك خفَّف عمليا من معاداته الأمم المتحدة، فكذلك يرجَّح أن لا يصل إلى نفض يد واشنطن من محافل دولية قانونية.
وإذا تقلّصت المنافذ السياسية السلمية، فإن مجرَّد تسيير حياة الفلسطينيين قد لا يكفي لكبح الانفجارات الفلسطينية المضادّة لهذا التعدّي الاحتلالي الذي لا يُبدي، وهو في ذروة التنافس، أو المزايدات من يمينٍ صهيوني فاشيٍّ إلى من، أو (ما) هو أكثر يمينيةً، لا يبدي أنه يحسب كبير حسابٍ لعواقب هذا الانسراع، مفيداً من فسحة يتيحها رئيس أميركي (لُقْطة)، ومن ظرف عربيّ يمعن في غيابه.
وأما أميركا فإنه يضرّها أن تُماثَل في الوعي الشعبي العربي والإسلامي بإسرائيل؛ لتفتح على نفسها معارك أوسع، كلما أوغلت إسرائيل في اقتراباتها الخطرة من المقدسات، أو كلما أثقلت المواجهة في فلسطين بحمولاتٍ دينية متطرِّفة ومتعالية.