التضامُن العالمي ليس بديلاً من الفعل الفلسطيني

التضامُن العالمي ليس بديلاً من الفعل الفلسطيني

02 مايو 2024

لافتة لدعم فلسطين في احتفال بعيد العمال في ليل شمال فرنسا (1/5/2024/فرانس برس)

+ الخط -

تثور أسئلة عن غياب حرارة الشعوب العربية، والجموع الطُّلابية منها، إزاء الفظائع التي ارتُكِبت، ولا تزال، في الحرب العدوانية على قطاع غزّة، في مقابل الحراك الطُّلابي اللافت في الجامعات الأميركية، والذي توسَّع ليشمل جامعات أوروبية وغيرها. ولا يخفى أنّ السبب الأكثر أهمية يعود إلى الاختلاف بين مجتمعات ديمقراطية (مع الإقرار بقيود مؤسّسة السلطة وجماعات المصالح والضغط) ومجتمعات أُضعِفتْ فيها الإرادةُ الشعبية، وأُخضِعتْ فيها الحياةُ السياسية لصالح شكلياتٍ تضبطها النُّظُمُ العربية الحاكمة.

وعلى أهمية تأثير هذه الاحتجاجات الواسعة في الجامعات الأميركية، وفي هذا التوقيت، في صانع القرار الأميركي، وفي أقطاب إدارة الرئيس جو بايدن، وهو يواجه منافسةً خَطِرة على ولاية رئاسية ثانية، ورغم أنّ هذه الاحتجاجات أضحت مصدر إلهامٍ لكلّ الأحرار ومحبّي العدالة في العالم، إلا أنّها لا تقوى على تعويض غياب اللاعب الأساسي؛ صاحب القضية، إذ المفترض أن تقوم حركاتُ التضامُن بدور المسانِد والمواكب للفعلِ الفلسطيني في أرض الصراع.

وقد مثّلت عملية طوفان الأقصى فرصةً ثمينة لتوفير الزخم، لكن معوقات البنية الفلسطينية، والعربية الرسمية والمجتمعية، أهدرتها؛ ذلك أنّ هذه الحالة المُتبلّدة فشلت في التقاط هذا الخيط المُتوهّج؛ لأسبابٍ منها، فلسطينيّاً وعربيّاً، غيابُ الرؤية المُوحّدة، والاستكانة إلى القواعد الأميركية غير النزيهة والمُنحازة بالمطلق إلى دولة الاحتلال، والهادفة إلى إنقاذها من الخضَّة القوّية التي كان من شأنها أن تعيد حسابات القوى المُؤثّرة فيها، ما جعل تلك القوى المُشكّلة لحكومة الاحتلال الراهنة، تنتكص إلى مواقف أكثر عدوانية، من قبيل المناداة بهزيمة الفلسطينيين لا هزيمة حركة حماس وفصائل المقاومة فقط، بل كيّ وعيّ الفلسطيني العادي، ليس في القطاع المنكوب وحده، بل في كلّ مكان، وفي الضفة الغربية بما فيها القدس، التي تعيش ظلال الحرب القاتمة، من ارتفاع عمليات القتل والإعدامات الميدانية، وتدمير البنى التحتية، كما حدث على نحو صارخ في طولكرم، ومخيم نور شمس، ومن مصادرة أراض واسعة لأغراض الاستيطان بذريعة تحويل الأراضي الفلسطينية إلى أراضي دولة، كما يحدث على نحو خطير في الأغوار، ومن إعاقة تنقّلات الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية بكثير من الحواجز الاحتلالية، فضلاً عن تهديدات اعتداءات المستوطنين المَحميَّة بجيش الاحتلال، مع تضييق اقتصادي مقصود، ومتزامن مع الحرب على غزّة، من خلال الاستمرار في حجْز الأموال المُقتَطَعَة المُستحقّة للسلطة الفلسطينية بموجب الاتفاقيات، وبمنْعِ ألوف العُمَّال الفلسطينيين من العمل داخل الخط الأخضر، بعد أن جرَّدت دولةُ الاحتلال الحياةَ الفلسطينية من مقوّماتها الاقتصادية الذاتية، بحرمان الفلسطينيين من الانتفاع الحُرّ بأراضيهم في المناطق المُصنَّفة "ج"، وهي التي تشغل أزيد من 60% من مساحة الضفة الغربية، وعبْر مصادرة الأراضي والتضييق على المزارعين ورُعاة المَواشي في الأغوار، وتقييد الحركات التجارية والصناعية بالاعتماد على اتفاقية باريس، وهي الاسم الدارج للبروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، ووقَّعتها السلطة الفلسطينية وإسرائيل في باريس (29 إبريل/ نيسان 1994)، والتي وصفتها دراسةٌ فلسطينية بأنّها مَصْيَدة دخلتها منظّمةُ التحرير الفلسطينية، جرّاء نقص خبرة المفاوض الفلسطيني في القضايا الاقتصادية والمالية والفنّية، ولم تستطعْ الفِكاك منها حتّى الآن، ثمّ أدخلت الفلسطينيين جميعهم في هذه المصيدة.

فُوّتتْ فرصة التحام الضفة الغربية بقطاع غزّة، حتى لو بحراك نضاليّ غير عسكري، ولكنْ مكثَّفٍ ومُؤثّرٍ، وهذا أخلّ بالمشهد الفلسطيني

هذه المعطيات الاحتلالية جعلت الضفة الغربية، المساند الأول المُفترَض، لقطاع غزّة، تحت حربٍ بذراعين، ذراع أمنية وأخرى اقتصادية. وكان هذا أكثر الأسباب أهمّية في إضعاف ردَّة الفعل الفلسطينية المقاوِمَة والمسانِدَة، المتوقَّعة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية التي لم تتّسقْ في مواقفِها وجهودِها مع حرب الإبادة في غزّة، بل بدت نافرة تتّجه إلى التحضير لما بعد الحرب، قبل أن تبدو لتلك الحرب نهاية قريبة أو واضحة، ومن دون أن يبدو في مواقف قادة الاحتلال أيُّ قبول بدورٍ للسلطة في القطاع أو استعداد لإعادة النظر في موضوع حلّ الدولتين، بل كثُر تباهي بنيامين نتنياهو بمنْعِه قيام دولة فلسطينية، ولم تقوَ كلُّ الجرائم والوحشية، والتحوُّلات الإسرائيلية الحادّة نحو الدموية والاستئصال، في حمْل السلطة الفلسطينية على مراجعات حقيقية لعلاقتها مع دولة الاحتلال، واجتراح مقارباتٍ ترقى إلى مستوى الصراع الوجودي الذي زادت مؤشّراتُه. وظلَّت قيادة السلطة تُعوّل على ضغوطٍ أميركية، لم تثبتْ كفايَتَها، من دون أن تلوّح بإعادة الأمر إلى الشعب. لم يكتفِ نتنياهو بمنْع قيام دولة فلسطينية، بل استمرّ في العمل على إضعاف السلطة، ماديّاً، بالابتزازات المالية والاقتصادية، ومعنويّاً، بتكثيف اقتحامات جنود الاحتلال مناطق السلطة والمدن الفلسطينية، التي يُفتَرَض أنّها وفق "أوسلو"، خاضعة للسلطة، وأسفر الحال عن التزام بتلك الاتفاقية من طرفٍ واحد، هو الطرف الفلسطيني، وأصبح مُجرَّد إنقاذ حياة السلطة مطمَعاً، فيما أضحت هي غَرَضاً للرمي الاحتلالي، غير المؤمِن حتّى بـ"أوسلو" (لذلك يجنُّ جنونُ قادة الاحتلال عند لجوء الفلسطينيين إلى المؤسّسات والمحاكم الدولية) إلا في حدود بقاء السلطة إدارةً ذاتية، تحت الاحتلال وسيادته.

ظلَّت قيادة السلطة الفلسطينية تُعوّل على ضغوطٍ أميركية، لم تثبتْ كفايَتَها، من دون أن تلوّح بإعادة الأمر إلى الشعب

ولذلك فُوّتت فرصة التحام الضفة الغربية بقطاع غزّة، حتى لو بحراك نضاليّ غير عسكري، ولكنْ مكثَّفٍ ومُؤثّرٍ، وهذا أخلّ بالمشهد الفلسطيني العام، وربما ساهم، مع غيره من العوامل، في إنقاص التأثير الخارجي، مع أنَّ الفلسطينيين في الضفة الغربية كانوا شهوداً على جرائم الاحتلال ومستوطنيه، إلا أنّ ضعف التناغُم مع حالة غزّة لم يُساهم في تبديد مزاعم حصر المشكلة في غزّة وتزييف الصورة بالادعاء أنّ إسرائيل في حالة دفاع عن النفس إثْر "طوفان الأقصى"، فيما الحقيقةُ أنَّ السبب عامّ في طرفي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وفي المحصِّلة، فلسطينيّاً وعربيّاً، درَجت السلطاتُ الرسمية على تقديم العروض بغية استدراج الاعتدال في الطرف المقابل، فيما مضى الطرف المُحتَلّ في فرض الوقائع والاستفراد بأطراف عربية للتطبيع معها، لتجاوز الحالة الفلسطينية وطيّ استحقاقاتها. وبالتوازي، احتكرت تلك السلطاتُ إدارةَ الصراع بأوراق مستهلَكة، وبتحييد القوى الجماهيرية والطلابية، خوفاً من يقظة تلك الجموع الشعبية والعلمية والثقافية، التي تهدّد باتساع نطاق فعْلِها ليطاول أسئلةَ الحُكْم والتمثيل أو حتّى بمطالب ترتفعُ فوق السقوف المنخفضة في التعاطي مع دولة الاحتلال.