فخّ الإنزال

فخّ الإنزال

07 مارس 2024
+ الخط -

نظنُّه لن يُمحى ذلك الوجه الذي يحملقُ فينا ليُواجهنا بتخاذلنا وصمتنا، إلى أن يخلفهُ وجهٌ آخر لفاجعةٍ أخرى (وما أكثر الفواجع)، لنكتشف أنّ ذاكرتنا تاريخٌ من التساقط الكاشف لتاريخٍ من الخذلان.

...

"يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" حرفيًّا. استعراضٌ ممجوجٌ، ومحاولة وقحة لغسل الأيدي من الدماء التي تقطر منها ولم تزل؛ إذ ما زالت المقتلة قائمة، وما زالوا شركاء في كلّ روحٍ تصعد، بقصفٍ، بجوعٍ، بحرمانٍ، أو بخذلان.

في وقتٍ اعتاد فيه العالم أخبار الاستشهاد جوعًا، أو سوء تغذية، أو تسمّمًا بغير صالحٍ للبشر، ترى قوافل الإمداد لا تنقطع عن معابر العدوّ وموانئه لتعويض العجز، ثم تجدهم يصطحبون "مؤثرين" لتصوير مشاهد "الإنزال"، وإجراء جلسات تصوير أمام بوابة المعبر، لنرى قدر إنسانيّتهم وحنانهم، هم ذاتهم الذين يمدّون الممرّات (برًّا وبحرًا) للعدوّ بلا توقّف (الأردن مثلاً، ثاني أكبر المصدّرين للعدو، بعد تركيا)، لا تفكّ الحصار اليمنيّ المبارك عليه فحسب، إنّما تدعم اقتصاده، وتمتصّ كثيرًا من آثار ضربات المقاومة واستمرار الحرب عليه داخليًّا ودوليًّا، وتمنحه براحًا للضغط والمراوغة أثناء التفاوض على إنهاء عدوانه.

ليست وليدة ارتباكات فرضها الحاصل، أو تخبّطات ضعفٍ أو عجزٍ عن المواجهة، بل قناعات وانحيازات مستقرّة منذ عقود، ترهن بقاءها في الحكم بذات الأدوات التي أوصلتها له (مزيج من الخيانات والانقلابات وحكم العصابات/ الأسر الفاسدة)، وكما كانت علاقتهم بالعدوّ ومصالحه مبرّرًا للوصول، فستبقى مرهونةً بوجوده ومصالحه للبقاء أيضًا.

كما كانت علاقتهم بالعدوّ ومصالحه مبرّرًا للوصول، فستبقى مرهونةً بوجوده ومصالحه للبقاء أيضًا

فقد قطع هؤلاء كلّ صلة، لا بالناس ومصالحهم فقط، إنّما بالأوطان كذلك، بعد تجاوز الترويج لتهديدات من قبيل "لا نحتمل الحرب" أو "سينهار الاقتصاد" و"اتفاقات السلام تضمن استقرارنا الداخلي" إلى آخر هذه التلفيقات التي تكشّف زيفها بالوقت والتجربة، وصولاً إلى "غرفة العمليّات المشتركة" مع العدو، أو جلسات الاتفاق على شكل الـ "ما بعد" مع العدو أيضًا، ثمّ أخيرًا: الإنزال الجوّي المشترك (مع العدو كذلك) لمساعدات هزيلة، اكتشف الغزيّون أنّها فِخاخ لحصدهم جماعةً فور تجمّعهم لتلقّيها.

الشهادات من الشمال التي تحدّثت عن اتصالات للتنسيق المسبق لأماكن الإنزال، ورفض الجيش الأردني لمواقع اقترحها أهل الشمال عليهم، وإبلاغ الأهالي بمواقع أخرى (لم يتم الاتفاق عليها) ومواعيد إلقاء المساعدات بها، ثم حال تجمّعهم يبدأ القصف... أمور مرعبة، وتكشفُ شراكةً كاملة مع العدوّ في جرائمه، ليس دبلوماسيًّا واقتصاديًّا فحسب، بل عسكريًّا كذلك.

ورغم انتفاء كلّ عاملٍ وطنيٍّ، أو ركنٍ إنسانيٍّ يمكن لهؤلاء النظر منه لاتّخاذ قراراتٍ مناقضة لمعتادِ أدائهم، لا لينقذوا الأهل المتساقطين، جوعًا ومرضًا وقصفًا وتعذيبًا، إنّما لإنقاذ أنفسهم وكراسيهم ذاتها؛ لأنّ ارتهانا كهذا يحتملُ انتصار حركة التحرير/ المقاومة في لحظةٍ لا تبدو بعيدة رغم قسوة الحاصل ورعبه (إنسانيًّا)، وهو ما سيُنهي وجودهم جميعًا في مواقعهم، اليوم أو غدًا.

وربّما تسير الحكاية عكساً؛ إذ تكون خياناتهم تلك، وقمعهم لكلّ صوتٍ يدعمُ الأهل أو يرفض الإبادة، وتخوين كلّ حراكٍ في الاتجاه عينه، خاصّة في ظلّ الانهيارات المتتالية في قطاعات الحياة كافّة في بلدان حكمهم المشؤومة، وعجزهم عن توفير ضمانٍ وحيدٍ لغدٍ قريب يحياه النّاس، ولعلّ مشهد المصري عبد الجواد محمد (45 سنة. أمين شرطة بقسم كرموز بالإسكندرية)، وهو يخلع بدلته الميري، ويلقيها على الأرض، ويهتف ضدّ السلطة لتورّطها في جريمة الإبادة مشهدٌ دالّ، وله ما بعده، ليس رمزيًّا فقط، إنّما شحن ممتدّ لانفجار قادم.

ذاكرتنا تاريخٌ من التساقط الكاشف لتاريخٍ من الخذلان

واستعراضاتٌ كهذه في حقيقتها، وبعيدًا عن وجهها المسرحيّ، لا تغسل إلا وجه العدوّ الذي لا يترك مناسبةً، إلا ويؤكّد فيها على نفي جريمة الإبادة عن نفسه، بل الترويج لدوره الإغاثيّ/الإنسانيّ في نوافذ الإعلام ومحافل التمثيل الدبلوماسي، وهم شركاء في هذا التلفيق الذي لا أستبعدُ أن نراه يقدّم رسميًّا في محكمة العدل أو غيرها.

وفي جانبٍ منها تحاول ترسيخ صورةٍ ذهنيّة تنتفي منها، عند الغزيّين والعالم، أيّة أدوار لحكومة وطنيّة فلسطينيّة، وأيّة إرادة لإدارة حياة الناس وحاجاتهم، تمهيدًا لتصوّرات الاحتلال والأميركان وحلفائهم في قصور الحكم المستعربة عن القطاع تحت حكم عسكري، أمني إسرائيلي، وإدارة سلطة أوسلو بعد إعادة ترتيبها، أو إدارة عربيّة مشتركة، أو أيّ من هذه التصوّرات التي تتعامل مع القطاع كأنّ مقاومته هُزمت أو قُضيَ عليها، وهو ما تدحضه المقاومةُ واقعًا يومياً وصموداً مذهلاً.

المعبر تحت سيطرتكم، والفلسطينيون أيضا، وإذا أردتم المساعدة حقًّا، فافتحوا المعبر لكافة لوازم الحياة دخولاً، ولكافة المصابين والمرضى خروجًا، والممرّ البريّ أنتم بوابته؛ فاقطعوها عن العدوّ إن كنتم صادقين.