مصر.. عن التلبيس والتحبيس

مصر.. عن التلبيس والتحبيس

04 ابريل 2024
+ الخط -

هذا وقتُ الغضب الخالص، الذي لا يترك مساحةً لما سواه، لا تفكير ولا عقلنة ولا استيعاب، الحاصل فوق طاقةِ الكلّ، بشرًا ووجودًا إنسانيًّا جماعيًّا، وخرسنا القسريّ هذا يزيد هذا الغضب توقّدًا، بانتظار تفجّرٍ يُطهّر أو يُشظّي، وهو ما سيكون على أيّ حالٍ، قَرُب أم بَعُدَ.

لزمني شهران وزيادة لأقدر على الكتابة بشيءٍ من هدوءٍ وموضوعيّة ردًّا على ما أثير وقتها (بعد تظاهرة مائة يوم على الإبادة)، وتزامنًا مع مقال "عن برد المعتقل وصقيع الوطن" الذي نشرته "العربي الجديد"، سواء على لسان البعض في وسائل الإعلام أو الصحف ومواقع التواصل، وبعيدًا عمّا طاولني والمشاركين من اتهامات بالإرهاب والخيانة وغيرها من ناحية، أو المزايدة الجوفاء من ناحية أخرى، فقرة واحدة استوقفتني، ورأيت استدعاءها للردّ، إذ كانت تحمّلني مسؤوليّة إبقاء الزميلات والزملاء في الاعتقال، لتهوّري وصدامي الطائش/الأناني.

وبعيدًا عمّا في هذا الكلام من وقاحة ورُخص، إلا أنّه لم يكن خطابًا فرديًّا يَحمل رأي قائله وتقديره، كما أنّه من حيث أراد نفي التعامل مع ملف المعتقلين بمنطق "الرهائن" فقد أثبته، خاصّة أنّ هذا الكلام قد أُعيد إنتاجه وتدويره على الجميع، ليس خارج السجون فحسب، إنّما في داخلها أيضًا.

"لم تخرج القائمة (قوائم الإفراج عن المعتقلين)": لأنّ فلاناً هتف، لأنّ فلانة كتبت، لأنّ المقال الفلاني تجاوز، لأنّ التظاهرة الفلانية تخطّت، لأنّ السلوك العلّاني اصطدم... وهكذا؛ السلطة التي ترتكب بطولِ هذه السنين جريمة اعتقال الناس وإضاعة أعمارهم وتدمير حيواتهم وأسرهم في أسوأ الظروف، تحمّل رفاقهم مسؤوليّة هذه الجريمة، وتُساومهم على كلّ كلمة وتصرّف وأداء وخطاب، مقابل الإفراج عن رهائنهم.

وفي الداخل، زيادةً في الجريمة والوقاحة، يُقال للمعتقل نفسه خطاب مشابه: لم تخرج لأنّك تعترض، تشتكي، تنشر، تمتنع، أو حتى تُضرب عن الطعام (احتجاجًا على الجرائم المرتكبة بحقه في الداخل). قيل لي هذا الكلام، وأنا معتقل وأتعرّض للتعذيب أو الاعتداء، ولم يستحِ قائلوه من أنفسهم، من صورتهم حتى في أعيننا، إن لم يكن أمام أنفسهم.

السلطة التي ترتكب جريمة اعتقال الناس وإضاعة أعمارهم في المعتقلات، تحمّل رفاقهم مسؤوليّة هذه الجريمة، وتساومهم على كلّ كلمة وتصرّف

وعليه، يصبح الكلّ رهينةً في يد السلطة، لا المعتقلون فقط. هذا يُساوم بك وأنت تُساوم بها، والكلّ مقموعٌ بتصديقه لما حمّله له الآخرون (نيابةً عن السلطة) من مسؤوليّة وذنب، وعليه يخسر الكلّ وتكسب السلطة إلهاءها للكلِّ بالكلِّ وانشغالهم بحالهم عنها، وتبادلهم للاتهامات امتصاصًا للصدمات واستنزافًا للطاقة في وقتٍ هم أحوج فيه لتركيز طاقتهم على صاحبِ الجريمة بحقّهم جميعًا (المعتقلون والخارجون وحتى القريبون منها).

وأنا هنا رغم تقديري لاختيارات الناس، وبنائهم مواقفهم بعد حساب أثر ذلك على رفاقهم ورفيقاتهم، خاصّةً أولئك الذين اضطُرّوا لذلك اضطرارًا، ربّما أبكاهم بعيدًا عن أعين الناس، وفهمي لكون ذلك "تضحيةً" عند البعض خاصّة في أوقات اختبارٍ كتلك التي نعيشها الآن، إلّا أنّني أقف بحدّةٍ أمام محاولات إعادة تعريف هذا الفعل بعد ترسيخه كواقع، باعتباره "أصلاً" لا اضطراراً.

فإذا قبلت أن تضحّي بموقف أو تتراجع أو حتى تصمت، لأنّ السلطة تساومك بالرهائن التي لديها، يجب أن تُذكّر نفسك بأنّ هذا خلافُ الأصل، أنت مضطرٌّ لهذا، وكان يجب أن تفعل غيره لولا أن اضطُررت. أمّا محاولة ترسيخ هذا "الاستثناء/الاضطرار" كواقع/ أصل، يُنكر من لا يفعله أو يُهاجَم، أو حتّى يُتّهم، فهي شراكةٌ في الجريمة على وجهٍ ما، ليس فقط لأنّها تلبّس على الناس وتلفّق، إنّما لأنها تعمل على طمس الحقيقة وتبرئة السلطة من جرائمها، وهو ما لا يصحُّ ولا يُقبل.

السجّان معروف (للبشر والوطن)، وجريمته جليّة؛ فإن لم تستطع مواجهته بفعله الشنيع، خوفًا أو مصلحةً، فلا تُلقهِ على غيره، واخرس رجاءً.

مدونات أخرى