الجريمة الألمانيّة في غزة

الجريمة الألمانيّة في غزة

22 مارس 2024
+ الخط -

"الحل النهائي" الذي تتبناه إسرائيل اليوم تجاه الفلسطينيين هو ذاته الموقف النازي الذي خلّف المحرقة بفوقيّة المستعمر الأبيض ووقاحته، وهو موقف لا يسمح لأحد بأن ينتصر عليه، ولو في حجم الجريمة (الإبادة)، جريمته وحده، ولن يسمح بأن ينازعه عليها أحد: سيشارك فيها، بل وسيُصبح صاحبها أيضًا هذه المرّة.

ليست عقدة ذنبٍ على هذه الصورة، إنّما حصريّة جريمة؛ ولهذا فإنّ استمرار ذات السلوك بأدوات مشابهة وصولاً إلى ذات النتيجة (إبادة شعب كامل والقضاء على كلّ ملامح الحياة واحتمالاتها، بعد الوصم والحصار والاضطهاد المتواصل)، كيف يمكن فهمه كتكفير عن الجريمة النازيّة؟ أليس امتدادًا لها على الجانب الآخر، تمامًا كما يفعل القاتل المأجور أو المليشيا المسلّحة في مكانٍ ما: تقتل من هذه الطائفة لحساب من يدفع، ثم تقتل من خصومها لحساب من يدفع أيضًا.

ربّما الفارقُ أنّ "البلطجي الألماني" هذه المرّة استطاع تسويق نفسه (تمامًا كما حاول الصهيوني لعقود) كضحيّة، لم يفلح فقط في تمرير جريمته وتبريرها، بل يطلب التعاطف معه وتقدير فعله "حتى لا يعيد إنتاجه مرّة ثانية"، سنرسل لكم يهود أوروبا هربًا من الإبادة، لكننا سنرسل بعدها الأسلحة لتحاربوهم بها "ما أنبلنا!".

والآن سندعم إسرائيل (عسكريًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا..)، سنضاعف دعمنا الإبادة بالسلاح أكثر من عشر أضعاف، طائرات مسيّرة ودفاع جوّي ونظم اتصالات وأسلحة فرديّة وغيرها، لكن سنعلن في الوقت ذاته عن حزم مساعدات إنسانيّة لإغاثة أولئك المقتولين بذخيرتنا، وستقف ألمانيا (وحدها دون العالم) بجانب إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة لتدافع عنها في الدعوى المرفوعة ضدّها من جنوب أفريقيا، وستعلّق جميع المساعدات للمشاريع التنمويّة والإغاثيّة في غزّة، كما ستُوقف تمويل أونروا، وستبذل جهودًا غير قليلة لتضغط على قادة الدول والمنظمات لاتخاذ موقف مشابه، وستُزايد حتى على نفسها ضمن سياق "أمن إسرائيل جزء من صميم الوجود الألماني"، ليُصبح الاعتراف بإسرائيل كدولة كتابيًّا واحدًا من شروط الحصول على الجنسية في ولاية ساكسونيا الألمانية.

وقفت ألمانيا إلى جانب إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة لتدافع عنها في الدعوى المرفوعة ضدّها من جنوب أفريقيا

أما هؤلاء الذين يصدّقون دورهم كمدافعين عن حقوق الإنسان (في العالم العربي أو حتى داخل ألمانيا)، فسنقطع عنهم الدعم بعد أن نبتزّهم به ليغيّروا موقفهم من إدانة المجرم، سنعتقلهم، سنمنع التظاهرات والفعاليّات الثقافيّة والفنيّة كما الأدبيّة، سنفصل الأكاديميين والصحافيين، وسنكمّم الأفواه (كما لو كانت شرق أوسطيّة) بذات الأدوات التي طالما أدنّاها واستخدمناها للضغط على تلك البلاد التي نشاركها القمع الآن.

ليس هذا فحسب، بل سنصطدم تمامًا ونهدم كلّ ما بنيناه في أذهان مجتمعنا والعالم عنّا، من قيم ومبادئ حول الديمقراطيّة وحقوق الإنسان واحترام الآخر ودمج المهاجرين في غمرة الإبادة، التي ما أن تلوح من بعيد (هل كانت بعيدة حقًا، أم أنّها نتاج جريمتهم التاريخيّة؟) حتى ننخرط فيها وننسى كلّ ما سواها، مهما كان مُؤسّسًا في حياة البلاد والمجتمع.

الشهر القادم ستقف ألمانيا هي الأخرى أمام محكمة العدل الدوليّة، متّهمة كحليفها بجريمة الإبادة، وربما نرى في القادم غير البعيد صورةً أخرى، تشاركها مصيرها، بعد تحرّر فلسطين، ليس على مستوى الموجات الشعبية للمقاطعة أو التبرّؤات الفرديّة بتمزيق جواز السفر والاستقالات الأكاديميّة أقصد، إنّما عن ذلك التغيّر الذي سيطاول "المجتمع الألماني ودولته" على أثر شراكتها المستمرّة في إبادة الشعب الفلسطيني. وإلى حينها نسأل: كم فلسطينيّ بريء قتلت ألمانيا منذ بدء الإبادة؟

مدونات أخرى