ترّفقوا

ترّفقوا

14 مارس 2024
+ الخط -

قامت قيامة الناس على وسائلِ التواصل الاجتماعي، وفي أحاديثِ مقاهيهم، تعقيبًا وتحليلًا على تفلّت أداءِ واحدٍ كان يمثّل لهم يومًا ما، معنًى أو رمزًا، وبقدر ما رفعوه وقت الترميز، هاجموه وشيطنوه وسخروا منه الآن.

وبعيدًا عن غيابِ أيّة طاقةٍ للاهتمام والالتفاتِ بجانب الحاصل في غزّة، إلا أنّ شيئًا مخيفًا يقوله هذا الهجوم، وهذه السخرية التي أُطلقت على الرجل، بما تحمل من تعالٍ ومظنّة خيرٍ بالنفس، وغياب للترفّق.

...

لا أعرفُ هذا الذي سأكونه غدًا، لكنّي أخشاهُ كثيرًا. تُفزعني الاحتمالات؛ مفتوحة على ما يتجاوز أشطح الخيالات. وما سبق واختبرتُه يقولُ بألّا شيء مستبعَد مطلقًا.

كلّمتُ نفسي وكلّمَتني في زنزانتي الانفراديّة التي قضيتُ بها سبع سنين ونصف، خلقتُ من الظلالِ على الجدران بشرًا وأمكنة، وعشت معهم قصصًا باقية في نفسي وذاكرتي للآن (كان السجّانون والجيران المعتقلون يمرّون فيمصمصون شفاههم، ويقولون "جُنّ").

لم أتعرّف على أفراد من عائلتي حين التقينا، وانتهت زيارتنا ولم أعرف مَن هؤلاء.. وما زلتُ للآن أصطدم بمن/ ما تساقط منّي في الطريق. 

شُفتُ وسمعتُ ما لم يتجلّ للآخرين، وقضينا الوقت معًا بسلامٍ أو فزع، وحسبَ بي الآخرون ما راعهم.

صرختُ في وجه الله بعد أن عاتبته، كلّمت الشياطين والقطط والصراصير والنمل، حاورتهم وحاوروني.

اختطفني ذهني لحيث أرتعب من مجرّد الاستدعاء رغم التجاوز (إن كان ثمّة تجاوز)، ورغم كلّ جهدٍ نبذله (وأطبّائي) لبدء رحلة التّعافي.

تهاجم المهزوم، أم تُنكر ما فيكَ منه؟ هجومٌ على ما تراهُ أم سدٌّ للباب على ما تخشى أن تراه؟ أبهذه الطريقة تغلق عينيك؟

وراهن السجّان (هذا الذي يحمل مفتاح الزنزانة، والآخر صاحب القرار في قصره) على جنوني أو موتي، وفعل كلّ ما يؤدّي لذلك بتواطؤ الأطبّاء/الضبّاط، والمحققون والحقوقيّون الرسميّون.

سماع أصوات تعذيب الرفاق والجيران ما زال يشكّل كوابيسي للآن (يختلطُ بمشاهد الإبادة في غزّة)، وأنتفض فزِعًا منه، ووجوههم في كلّ ليلة؛ فأشاركهم الصراخ، ولو لم يُسمع صوتي.

الضمُّ، ذلك المُطمئن الأنيس، أخشاهُ كهجومٍ أكادُ أهرب منه، بعد اعتياد كلّ اقترابٍ كمقدّمة لاعتداءٍ من هؤلاءِ، أو أولئك.

أكادُ أبكي في كلّ مرّة أجدني منحشرًا فيها وسط الناس (أيّ ناس) لولا أنّ قنواتي الدمعيّة لا يُسعفني جفافها المزمن.

....

هذا شيءٌ يسيرٌ ممّا أُضمِرُ في داخلي.. ولا يتكشّف للعيان منه إلا قليلاً، إن تكشّف.

ماذا لو صرختُ، بكيتُ، فررتُ.. وأعادني حزني واكتئابي وهزيمتي لما سبقَ وقسرني عليه في زنزانتي الانفراديّة؟

ماذا لو فقدتُ اللجام الذي أحوشُ به ما يعتملُ فيّ وتشظّيت على ملأ؟ سأكونُ مجنونًا حينها؟ سيُهاجم البعض أو يسخر؟ سأصبح مادّة لـ"القلش" والـ"ميمز"؟ هل سأكونُ واعيًا حينها لهذا التفاعل؟ هل سأكونُ مهتمًا؟

لا أعرفُ هذا الذي سأكونه غدًا، لكنّي أخشاهُ كثيرًا

وأنتم: بهذا الاستعلاء ستتعاملون؟ بهذه العجرفة التي تظنّ أنّها بمأمنٍ لا يتزعزع؟ التي تظنّ في نفسها الاستواء أصلاً؟

تهاجم المهزوم، أم تُنكر ما فيكَ منه؟ هجومٌ على ما تراهُ أم سدٌّ للباب على ما تخشى أن تراه؟ أبهذه الطريقة تغلق عينيك؟

...

الهزيمةُ قاسية، أثرها مزلزلٌ.

لا نعودُ نحن بعدها كما كنّا قبل، وقد لا نعودُ مطلقًا.

ولكلٍّ منّا لحظة سقوط، لا تشبه الآخر. وليس فينا من يعرفُ الذي سيكون عليه غدًا، إن كان.

فترفّقوا.