الشعوب لبعضها

الشعوب لبعضها

28 مارس 2024
+ الخط -

يعرفُ الناسُ قدر مصر وشارعها في كلّ موضعٍ؛ لذا لا ينفكّ المتظاهرون حول العالم ينادون الشعب المصري ليستنفروا حراكه لأجل فلسطين، إدراكًا لأصداء أيّ تحرّكٍ مصريّ في ما يجري للأهل على مقربةٍ، لا أبعد منها.

وصلت إلي منذ بداية العدوان على غزّة عشرات الرسائل والمكالمات والصور ومقاطع الفيديو من أنحاء العالم (وغزّة في قلبه)، كما أشركتني العديد من الفعاليات في أوروبا والأردن والضفّة وغيرها، حضورًا وهتافًا، وهي تردّد ما سبقَ وانطلق في تظاهرات القاهرة لتقول لي: صوتكم مسموع، وصل إلينا هتافكم، وصل إلينا دعمكم.

وبلا توقّف، لكلّ خطوةٍ نخطوها مهما كان عددنا صدىً يتردّد، وكلّ شبرٍ ننتزعه في الشارع براحٌ على الأهل في غزّة (بحسب توصيفهم)، وجب علينا إدراكه والتمسّك به والسعي لبلوغِ ما بعده.

فعلتها الجماهير الأردنيّة التي تحاصر سفارة العدوّ قبل يومين حين هتفوا "الشعب المصري عامل إيه؟ معبر رفح مسكّر ليه؟". وبهتافٍ مرتجل يحمل الاستجابة كما يؤكّد وحدة النضالات ووحدة المعارك، وصولاً إلى التحرير (تحرير فلسطين وكلّ شبرٍ محتلّ، وتحرير الأوطان المختطفة من سلطاتها) كان ردّنا من قلب القاهرة (في حدود الكاردونات صحيح، لكنّه مبتدأ الأشياء بعد العدم)، فجاءنا الردُّ في اليوم التالي من عمّان وعواصم أخرى يردّدون هتافاتنا كما نردّد هتافاتهم.. وهكذا: الشعوب لبعضها، والنضالُ واحدٌ، وكما يتكاتفُ المستبدّون لقمعنا وقهرنا ونهب بلادنا وحقوقنا، لا حلّ أمامنا إلا التكاتف لانتزاع الحقوق وتحرير البلاد.

والحاصلُ في قطاعنا المغدور منذ أشهر طوال وأداء السلطة منه، دليلٌ على ما يمكن أن يُحدثه الخرس المصريّ حين يحدث، والذي لولاه (بقمع كلّ صوتٍ وإغلاق كلّ نافذة وسحق كلّ فرصة للحراك)، لما استمرّ العدو في إبادته، ولما استمرّ العالم في تواطئه. خبِروا من قبل انتفاضتنا الخاطفة في 2011، وعرفوا وجهتها، كما عرفت هي، ولولاها لظلّت سفارتهم مفتوحة في قلب القاهرة وعلمهم يدنّس صفحة النيل.

جاءنا الردُّ في اليوم التالي من عمّان وعواصم أخرى يردّدون هتافاتنا كما نردّد هتافاتهم

ورغم تأخّرنا المخجل/العاجز في التفاعل مع جرائم العدوّ وشراكة السلطة، بعد سحق كلّ مساحة والتخلّص من كلّ فاعلٍ، إلا أنّ الحراك الأردنيّ المُلهم يمنحنا شيئًا من الأمل في إدراك ما فاتنا (وما زال)، سواء في الشارع أو بين صفوف الحركة السياسيّة المصريّة؛ فقد انطلقت الشرارة مع انطلاق العدوان ولم تتوقّف، إنّما اتّسعت وتعاظمت حتى وصلت إلى فعاليّات قطع الطريق على الممرّ البرّي، ثم حصار واقتحام سفارة العدوّ المستمرّ منذ أيّام.

قد تكون الفرصة مؤاتية مهما تأخّرت أمام الشارع السياسي المصري، لاستعادة شيء من الروح التي أُزهقت لسنواتٍ طوال، تعذرنا أمام الأهل في غزّة على عجزنا الفضّاح بامتداد أشهر الإبادة، لا في حدود الممكن والمتاح والمقبول (ولو على مضض وتحت ضغط) فقط؛ إنّما في مساحات للتجريب ودفع الأسقف وصولاً إلى انتزاع ما يليق بالحاصل.

مؤكّد لن يكون هذا مجانيًّا، ولن يمرّ ببساطة الكتابة عنه، لكنّه يجب أن يحدث على كلّ حال؛ إذ لا عذر لدينا على هذا القدر من التخاذل، وهذا القدر من الانهزام (كأنّ الهزيمة حين وقعت أراحتنا مع عبء المحاولة مرّة أخرى، وحين يسألنا أحد: أين أنتم؟ سنردّ ببساطة: مهزومون!).

صحيح أنّ الحاصل كلّه لم يكن ليحصل لو لم تنهزم الثورة، وصحيح أنّ بلادنا ومحيطنا كلّه تدفع فاتورة الهزيمة تلك، لكنّ الأخطر منها، وهو الواقع بكلّ أسف: تمكّنها من دواخلنا، وتشكيكها في تصوّراتنا عن ذواتنا وحبسنا فيها كقدر لا فكاك منه، بدلاً من الانطلاق منها وتعلّم دروسها لا الانكسار معها، وإدراكًا لما تفعله أنصاف المشاوير وأنصاف الطرق وأنصاف الحلول في الأفكار وحملتها.