مع احترامي لرأي سعادتك

مع احترامي لرأي سعادتك

03 يونيو 2015

لم يكن مهما أصلا أن أقول لك رأيي (Getty)

+ الخط -
ثمّة كلام كثير قاله الفلاسفة والمناطقة والهراطقة والزنادقة والمتصوفة عبر التاريخ، العلاقة بين الذات الإلهية والمخلوق البشري، وعما يجعل مخلوقا بشريا يتمرد على فكرة الطاعة المطلقة للذات الإلهية، وعن موقف الذات الإلهية من ذلك التمرد الإنساني، وهل تواجهه بتعجيل العقاب أحيانا، أم تؤجله إلى يوم الحساب دائما، وإن طلبت مني أن أدلي بدلوي في هذا الكلام، برغم أنني لست فيلسوفا ولا مهرطقا ولا زنديقا ولا متصوفا ولا من أهل المنطق، فرأيي أن الذات الإلهية حسمت كلمتها منذ قديم الأزل، حين تركت الإنسان لمصيره في هذه الدنيا، وحتى يأتي يوم الحساب، بعد أن زرعت داخله القناعة بأن رأيه مهم، ليظل شغوفا بالدفاع عنه طيلة الوقت، ويحاول إقناع الآخرين به، ويغضب إن خالفوه فيه، بل ويعاديهم إن تعرض رأيه للتسفيه، وتزداد حدته في الدفاع عن رأيه، كلما زادت حدة دفاع الآخرين عن آرائهم، فيتحقق من حاصل ذلك كله: "دفع الله الناس بعضهم ببعض"، وهو ما كان يمكن أن ينتفي تماما، لو اقتنع كل إنسان بأن رأيه لا يهم أبدا أحدا غيره، واحتفظ به لنفسه  

منذ أيام قرأت تدوينة عملاقة الحجم نتعها صديق، في الهجوم على أحد الأفلام السينمائية الجماهيرية، ولم يكتف بكل ما كتبه، فأخذ يخوض جدالا عنيفا مع المعلقين المعترضين على كلامه، كأنه يخوض معركة شخصية مصيرية، فبدا لي أنه لم يبذل كل هذا الجهد، لكي يشفي غليله من الفيلم فقط، بل لأنه يرتبط بآرائه بشدة، مما يجعله يعد تسفيه رأيه، انتقاصا من وجوده الإنساني، وانه كان سيخوض ذلك النقاش بنفس الحدة والجدية، لو كان حول أي شيئ آخر، أغنية أو رواية أو ماتش كرة أو قرار سياسي، وأنك لو قلت له مثلا أن الفيلم الذي يهاجمه، لن يفنى بعد كل ما شنه عليه من هجوم، بل ربما تضاعف نجاحه، لما قلّل ذلك من حماسه، لأن إفرازات غدة الدفاع عن الرأي التي خلقه الله بها، كان لا بد لها أن تجد منفذا للخروج، حتى لا تحتبس في جسده، فيشقى بها، ولذلك كان لا بد أن يخرجها فورا من داخله، حتى لو أشقى بها من حوله، ليسهم ما أفرزه في تنشيط غدد أخرى، فيندفع أصحابها في الدفاع عن آرائهم المعارضة لرأيه، ويصبح لإستمرار الحياة معنى كانت ستفقده، لو قرر كل إنسان أن يحتفظ برأيه لنفسه، لتمضي حياته في هدوء.

تعال لنتخيل لو أن كل من أحببناهم من كتاب ومفكرين وفنانين ومتكلمين، توصلوا في مطلع حياتهم، إلى إدراك مبكر لكل الوقت الذي أنفقته البشرية في صراع الأفكار وحرب الآراء، وانتبهوا إلى عدم وجود أي جدوى من أي كلام يُقال، أيا كان الإبداع الذي يتم صياغته به، وقرر كل منهم أن يحتفظ بآرائه وأفكاره وحكاياته لنفسه، لينشغل بما يحقق له نفعا ملموسا؟. لأول وهلة قد يبدو لك تخيل كهذا واعدا بكل خير، لأنه ربما كان سيريحنا من عناء الصراعات السياسية، وحيرة الخلافات الفكرية، لكن أي عاقل يتأمل ذلك التخيل طويلا، سيدرك أن الحياة ستتحول إلى جحيم أرضي، بدون آداب ولا فنون ولا أفكار ولا آراء، وأن جدل الأفكار واشتباك الآراء وصراع الإتجاهات هو الذي يعطي للحياة طعمها وحيويتها، ولذلك يتملكنا جميعا الشغف بتوصيل آراءنا للآخرين، والحرص على معرفة آرائهم فيها، والإشتباك معهم من أجل إقناعهم بها، متجاهلين أن آراءنا ليست بالضرورة مهمة، وأنها قد لا تغير شيئا من الواقع، لكي لا نفقد الحرارة التي تدفعنا للصراع من أجل إثبات أهمية آراءنا، ليستمر بذلك زخم الحياة، حتى تأتي اللحظة التي تنتهي فيها، ربما في الموعد الذي يدرك فيه البشر جميعهم، أن آراءهم غير مهمة إطلاقا، وأن على كل منهم أن يحتفظ بها لنفسه، ولا يُشرك فيها الآخرين، لتسود في الكون لحظة صمت مطبقة عامة، ينفخ بعدها إسرافيل في الصور، وتحين ساعة حساب البشر على كل ما قالوه من آراء ظنوا أنها مهمة، وعلى كل ما ارتكبوه من أفعال شنيعة، سعيا لفرض آرائهم على الآخرين.    

يبقى أن أعترف أنه لم يكن مهما أصلا، أن أقول لك رأيي هذا، لكن ما دفعني لكتابته وإضاعة وقتك في قراءته، هو أنني إنسان مخلوق من صلصال من حمأ مسنون، وبالتالي فأنا أضعف من مقاومة شهوة الشعور الكاذب بأن رأيي مهم، فضلا عن أنني أخيرا وجدت فرصة لبدء مقال بإستخدام كلمة "ثمّة"، والتي أحبها كثيرا، لكن لم يكن لديّ ثمّة فرصة لاستخدامها في استهلال مقال. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.