غدانسك البولندية... مصنع سفن ومهد لمناهضة الشيوعية

غدانسك البولندية... مصنع سفن ومهد لمناهضة الشيوعية

16 أكتوبر 2021
سياحة في سفينة تاريخية (العربي الجديد)
+ الخط -

غدانسك تلك المدينة البولندية المطلة على بحر البلطيق تشتهر بطابعها المعماري المميّز وباحتضانها مصانع سفن أطلق عمّالها شرارة إضرابات أدّت في نهاية الأمر إلى سقوط الشيوعية في البلاد في عام 1989 وإلى إطلاق عملية التوجّه نحو التكامل مع الاتحاد الأوروبي.
ويعود تاريخ الإضرابات العمالية في غدانسك الواقعة شماليّ بولندا إلى ديسمبر/ كانون الأول من عام 1970، حين توقّف عمّال مصانع السفن عن العمل، احتجاجاً على ارتفاع الأسعار عشيّة عيد الميلاد. وراحت رقعة التحركات تتوسّع على امتداد ساحل بحر البلطيق، فعمدت السلطات الشيوعية إلى توكيل الجيش مهمة فرض السيطرة على الوضع. وفي مدينة غدينيا المجاورة، أطلقت قوات الأمن النار على المتظاهرين، الأمر الذي أدى إلى مقتل مئات وجرح آلاف آخرين في الاشتباكات بالشارع.

وفي منتصف عام 1980، أضرب عمّال مصنع "لينين" (تيمّناً بزعيم ثورة البلاشفة في روسيا فلاديمير لينين) للسفن عن العمل، رفضاً لارتفاع أسعار المواد الغذائية أيضاً، لكن من دون الخروج إلى الشارع هذه المرة. وقد توسّعت الإضرابات لتشمل كل أنحاء البلاد، علماً أنّ ليش فاليسا الذي صار لاحقاً رئيس البلاد، كان في قيادة الإضرابات التي اكتسبت طابعاً سياسياً وسط تصاعد دور حركة "التضامن" العمالية المعارضة. وبعد عجزه عن التوصل إلى اتفاق مع حركة "التضامن"، أعلن رئيس الوزراء البولندي آنذاك، فويتشخ ياروزلسكي، عن تطبيق القانون العسكري الذي فرض قيوداً فورية على حريات سكان البلاد ومنح صلاحيات استثنائية للشرطة، الأمر الذي أدّى إلى إبعاد "التضامن" عن المشهد السياسي البولندي.
وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عادت الحركات العمالية مرّة أخرى إلى الواجهة في سياق تغييرات جذرية طرأت على المشهد بعد تولّي آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، زمام السلطة في موسكو وتخلّيه عن دعم الأنظمة الشيوعية الحليفة في أوروبا الشرقية. وتُوّجت موجة الإضرابات التي انطلقت في عام 1988، بمحادثات "المائدة المستديرة" وتشكيل حكومة أولى غير شيوعية في بولندا في عام 1989.

الصورة
مدينة غدانسك في بولندا 2 (العربي الجديد)
مكانة خاصة لغدانسك في إنهاء الحكم الشيوعي (العربي الجديد)

وفي هذا الإطار، يلفت الباحث في مركز الدراسات الأوروبية بمعهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ستانيسلاف كوفالدين، إلى المكانة الخاصة التي تحتلها غدانسك في مسيرة بولندا نحو إنهاء الحكم الشيوعي التي انطلق قطارها مطلع سبعينيات القرن الماضي. ويقول كوفالدين لـ"العربي الجديد": "لا تحتل غدانسك مكانة خاصة من جهة المفاوضات بين السلطة والتضامن فحسب، بل هي احتضنت الإضرابات حتى قبل الثمانينيات، الأمر الذي أسهم في إطلاق آلية المواجهة بين العمّال والسلطة وما تلاها من تعايش وإطلاق مفاوضات المائدة المستديرة".
وعن دور إضرابات عام 1970 في المسيرة النضالية للعمّال البولنديين، يقول كوفالدين إنّ "قمع هذه الإضرابات باستخدام الجيش أدى إلى سفك دماء، وقد ترك القمع جروحاً عميقة في المجتمع، محدثاً تغييراً في علاقة العمّال مع السلطة وسط تنامي الأمزجة النقدية تجاهها بين عمّال غدانسك". وعن دور فاليسا في تحويل مجرى الإضرابات إلى المفاوضات في نهاية الثمانينيات، يشرح أنّ "مكانة فاليسا كانت تمكّنه من إقناع العمّال بوقف الإضرابات، فدخلت السلطة في المفاوضات معه. وفي ذلك الوقت، تشكلت في غدانسك مجموعة من الاتحادات ذات توجهات ليبرالية، علماً أنّ هذه المدينة هي مدينة سياسيين بولنديين ليبراليين ومعارضين حالياً، بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق دونالد توسك".

الصورة
مدينة غدانسك في بولندا 3 (العربي الجديد)
وجهة سياحية رائدة في بولندا (العربي الجديد)

وكانت مفاوضات "المائدة المستديرة" في عام 1989 قد أفضت إلى إجراء انتخابات وتشكيل حكومة غير شيوعية في بولندا، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة والفصل بين فروعها، مع إبقاء الحزب الشيوعي على أغلبية المقاعد في مجلس الشيوخ وانتخاب ياروزلسكي رئيساً للبلاد قبل أن يخلفه فاليسا في عام 1990.
وقد ألهمت هذه التجربة التي أدّت إلى توافق بين الأطراف السياسية دولاً أخرى في كتلة حلف وارسو؛ المجر وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا، لإنهاء الحكم الشيوعي بطريقة سلمية في الأشهر المقبلة، باستثناء رومانيا التي شهدت موجة من أعمال عنف أدت في نهاية المطاف إلى إعدام الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1989.

تجدر الإشارة إلى أنّ غدانسك، إلى جانب احتضانها مصانع السفن، تحوّلت إلى وجهة سياحية رائدة في بولندا تضم عدداً من المعالم والمتاحف، من بينها متحف الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) الذي فتح أبوابه أمام الزائرين في عام 2017.

المساهمون