"أوشفيتز" النازي... جرح مستمر في ذاكرة البولنديين

"أوشفيتز" النازي... جرح مستمر في ذاكرة البولنديين

12 سبتمبر 2021
شعار الموت عند مدخل معسكر "أوشفيتز" (أرتور ويداك/ Getty)
+ الخط -

 

رغم أن الجميع يعلم أن النازيين أشرفوا على معسكر "أوشفيتز" حيث قضى أكثر من مليون شخص خلال الحرب العالمية الثانية، فهو ألحق "عاراً" كبيراً بالبولنديين الذين تستقبل أرضهم المعسكر.

بعد مرور نحو ثمانية عقود على تأسيسه قرب مدينة كراكوف جنوب بولندا، لا يزال المعسكر النازي "أوسفينتسيم" أو "أوشفيتز بيركينو" بالألمانية الملقب بـ "معسكر الموت"، صفحة مأساوية في التاريخ، وأحد أبرز رموز "الهولوكوست" (المحرقة النازية)، وجرحاً ينزف في ذاكرة تاريخ البولنديين الذين يحاولون تبرئة أنفسهم من الجرائم التي ارتكبت هناك. 

وخلال خمس سنوات من وجود المعسكر أثناء الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى تحريره مطلع عام 1945، تحوّل "أوشفيتز بيركينو" إلى أكبر معسكر للعمل الإجباري والإبادة قضى فيه أكثر من مليون شخص جلّهم من اليهود، داخل غرف إعدام بالغاز اتسعت كُبراها لألفي شخص.  ورغم وضع لافتة فوق مدخل المعسكر تقول باللغة الألمانية: "العمل يؤدي إلى الحرية". لكن الواقع كان مغايراً تماماً، إذ اعتمد النازيون العمل الإجباري وسيلة للإبادة الجماعية في معسكراتهم.

بعد هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية عام 1945، تحوّل معسكر "أوشفيتز" إلى متحف أدرج لاحقاً على قائمة "يونسكو" للتراث العالمي، كي تحتفظ الأجيال الجديدة بذكرى الصفحات الأكثر مأساوية في تاريخ العالم تمهيداً لمنع تكرارها. وفي عام 2007، أضافت "يونسكو" كلمة "الألماني" إلى التسمية الرسمية للمعسكر تحت ضغوط دبلوماسية بولندية.

الصورة
كان يتم نقل المعتقلين بواسطة السكة الحديدية (العربي الجديد)
كان يتم نقل المعتقلين بواسطة السكة الحديدية (العربي الجديد)

وهنا، يلفت الباحث في مركز الدراسات الأوروبية بمعهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ستانيسلاف كوفالدين، إلى أن "معسكر أوشفيتز لا يزال جرحاً ينزف في ذاكرة البولنديين الذين يبذلون جهوداً حثيثة لإثبات أنه نازي بامتياز، ولا يمت بأي صلة إلى الدولة البولندية التي احتلها النازيون خلال فترة الحرب العالمية الثانية".

يقول كوفالدين لـ"العربي الجديد": "يرفض البولنديون تسمية المعسكر بأوسفينتسيم، ويصرّون على اعتماد التسمية الألمانية أوشفيتز. والحقيقة أن الألمان تولوا إدارة المعسكر، في حين لم توجد أثناء الحرب العالمية الثانية حكومة بولندية متعاونة مع النازيين. وفي عام 2018، قررت وارسو إخضاع من يتهم بولندا بالضلوع في جرائم النازيين لمساءلة قانونية، وهو ما اعتبرته تل أبيب وواشنطن بمثابة عدم رغبة وارسو في الحديث عن الهولوكوست". ويلفت كوفالدين إلى أن "ماكينة الإعدامات بأوشفيتز لم تطاول اليهود فقط، بل شملت عشرات الآلاف من الأسرى السوفييت والغجر والبولنديين أنفسهم".  

الصورة
أسلاك شائكة مكهربة لمنع الهروب (العربي الجديد)
أسلاك شائكة مكهربة لمنع الهروب (العربي الجديد)

في عام 2019، الذي سبق تفشي جائحة كورونا والقيود التي فرضها على حركة السفر حول العالم، استقبل معسكر "أوشفيتز" رقماً قياسياً من الزوار تجاوز 2.3 مليون. ويضم مجمع متحف "أوشفيتز بيركينو" عدداً من مباني المعتقلين، حيث عاشوا في ظروف بالغة القسوة وغير إنسانية، وكذلك أفراناً استخدمت في حرق جثث المعدمين، وخطاً للسكة الحديدية استخدم في نقل المعتقلين إلى المعسكر على متن عربات شحن، وعدد من المقابر والنصب التذكارية التي تخلد ذكرى الضحايا. 

وتأسس معسكر "أوشفيتز" في مايو/ أيار 1940 في مواقع لثكنات عسكرية سابقة للجيش البولندي. وجرى توسيعه تدريجياً باستخدام العمل الإجباري، وظل مفتوحاً حتى تحريره من قبل الجيش السوفييتي الذي دخل جنوده المعسكر في يناير/ كانون الثاني 1945.

الصورة
زار أكثر من 2.3 مليون شخص المعسكر في 2019 (العربي الجديد)
زار أكثر من 2.3 مليون شخص المعسكر في 2019 (العربي الجديد)

في المعسكر، تحوّل كل يوم من حياة المعتقلين إلى معركة للنجاة، فهم كانوا يقيمون في مبانٍ بدائية لا توفر متطلبات حمايتهم من تقلبات الظروف الجوية الصعبة، وينامون في غرفها على أسرّة خشبية، ويتناولون طعاماً فاسداً تسبب مرات بإصابتهم بأمراض معدية انتشر بعضها سريعاً في المعسكر.

ولم يتم توظيف عمل المعتقلين داخل المعسكر فقط، بل كانوا يرسلون إلى مناجم للفحم ومقالع الأحجار، ويجبرون على تنفيذ أعمال لمد أنفاق وقنوات مياه، وأخرى مرتبطة بمشاريع قطاعات خاصة. كما أخضع معتقلون بينهم نساء وأطفال إلى اختبارات طبية قاسية بلغت حد استخراج أعضائهم لإجراء "بحوث علمية". ومن أجل نزع أي ملامح فردية تساعد في تمييز المعتقلين، كانت تحلق رؤوسهم وترسم وشوم لأرقام مخصصة لهم على ساعدهم الأيسر.

وكاد الهروب من المعسكر أن يكون مستحيلاً بسبب تطويقه بسلك كهربائي شائك، ومراقبته من حراس يعتلون أبراجاً مدججين بأسلحة رشاشة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، اختار معتقلون كُثر الانتحار عن طريق إلقاء أنفسهم في الأسلاك المكهربة، بينما اختار آخرون الصمود والنجاة من أهوال الجحيم على الأرض، ولا يزال عدد قليل من المعتقلين أحياء، ويحضرون إلى المعسكر للمشاركة في مراسم إحياء ذكرى الضحايا.

المساهمون