تونس.. الانتخابات المحلية والمستقلّون مجدّداً

تونس.. الانتخابات المحلية والمستقلّون مجدّداً

20 مايو 2018
+ الخط -
كتبت في "العربي الجديد" (22/4/2018)، قبل أن تبوح صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية بأسرارها، عن المستقلين ومغامرتهم الانتخابية. ولم يستبعد ذلك المقال أن تحدث المفاجأة. والآن وقد حدثت، يمكن إعادة قراءة الحدث بما يسمح لفهم كيفية إنتاج هذه المفاجأة، والعوامل التي رجّحت صعودهم اللافت للانتباه.
كانوا بمثابة الحصان غير المتوقع في مسابقةٍ، كان بعضهم يرجّح أن نتائجها محسومة مسبقا لفائدة الأحزاب السياسية، لكن هذا الحصان الرابح دخل قادما من خارج المضمار تقريبا، وسفّه بعض التوقعات. لقد حصدوا 582 ألف صوت، أي ما يناهز 23,50% من الأصوات ليحتلوا بذلك، من حيث عدد الأصوات، المرتبة الأولى، بفارقٍ معتبرٍ عن حركة النهضة وحزب نداء تونس، فضمنوا ألف مقعد تقريبا في المجالس البلدية على الصعيد الوطني، وهم الذين لم يشكلوا سوى 897 قائمة فقط من جملة 2070 قائمة. يثير ترتيبهم هذا، لدى المختصين في السوسيولوجيا الانتخابية وغيرهم، تحفظاتٍ عديدة، فهؤلاء المستقلون لا يمثلون كتلة واحدة، ولا يستندون إلى خلفية فكرية أو سياسية منسجمة، فضلا عن غياب أي حد أدنى من التنسيق فيما بينهم، فهم مجموعات محلية صغرى، التقت على هدف موحد ومحدود، تعلق بالفوز في الحملة الانتخابية البلدية المحلية دون غيرها. ولذلك، يفضل عديدون الحديث عن قوائم مستقلة، وليس مستقلين بالمعنى الذي يوحي بانسجام تيار موحد.
قد يكون مفيدا إثارة هذا الإشكال. ولكن علينا أيضا أن نجيب على هذا الذي حدث، حتى نفهم 
هذه الصعود "المفاجئ" للمستقلين. ولعل أفضل مدخل هو التعرّف على ملامحهم ومساراتهم المختلفة. ولعل أول صنف هم "الغاضبون"، لأسبابٍ عديدة، من أحزاب انتموا إليها، أو من التحزب عموما، فقد خاض هؤلاء تجارب حزبية، طويلة أحيانا أو قصيرة أحيانا أخرى، ولكنهم انسحبوا أياما قليلة من تلك الأحزاب، في تزامنٍ مع تشكيل القوائم الانتخابية، احتجاجا عادة على أحزابهم التي لم ترشحهم، وفضلت لأسباب عديدة مرشحين آخرين.
تمثل قائمة الأفضل لمدينة أريانة أبرز نموذج لهذا الصنف الأول من المستقلين، فرئيسها كان عميدا سابقا لكلية الحقوق، وهو نائب في المجلس التأسيسي سابقا، وكان عضوا في حزب المسار (الشيوعي سابقا)، قبل أن يغادره. حاز الرجل على أرقام قياسية، وجمع أصواتا يفوق عددها ما حصلت عليه قائمة "النهضة" و"نداء تونس" معا.
الصنف الثاني من هؤلاء المستقلين هم الذين عجزت أحزابهم عن تشكيل قوائم وفق ما ينص عليه القانون، تحديدا فيما بتعلق بالقوائم الحزبية، فقد عجزت الأحزاب، لشحّ مواردها البشرية، في مسألة التناصف العمودي والأفقي الذي يلزم الأحزاب تحديدا على ضرورة وضع النساء والرجال بالتناوب في القوائم المقدمة على مستوى المحافظة الواحدة، وهو ما دفع أحزابا عديدة إلى تسريح مناضليها، وتحرير مبادرتهم، لأن القانون يعفيهم من هذا الشرط، ويظل هؤلاء مرتبطين عاطفيا، وربما تنظيميا، مع أحزابهم. ولم تخف الأحزاب ذلك، حين صرحت، في أكثر من مناسبة، أنها تدعم بعض القوائم، أو ساهمت في تشكيلها. تمتع هؤلاء، خلال الحملة الانتخابية، بمساعدة الأحزاب والاستفادة من تجاربها، كما عبّروا، في أثناء الحملة الانتخابية تلك، عن ميول حزبية، ودافعوا عن عديد من أطروحاتها في المسائل الاقتصادية والاجتماعية المحلية. ويعد هؤلاء أذرعا وظلالا لتلك الأحزاب، ولن يصمدوا طويلا أمام إكراهات الواقع، خصوصا وأن اختيار رؤساء البلديات في الأسابيع القليلة المقبلة سيضع الجميع أمام المحك، وستكشف لعبة التحالفات الجارية حاليا ضراوة هذا الأمر.
الصنف الثالث والأخير من المستقلين هم من له موقف سلبي من الأحزاب، والتحزّب عموما، بل يحملونهم مسؤولية الفشل السياسي الذي تمر به البلاد منذ أكثر من سبع سنوات. ويستند
هؤلاء في حملتهم الانتخابية إلى شبكات علاقات قوية محلية، وحسٍّ عال من العلاقات العامة بالمعنى التسويقي، حيث يتم تثمين موارد محلية ومادية ورمزية، على غرار القرابة والمصاهرة والجوار، فضلا على النفوذين الأدبي والمالي في قراهم ومدنهم وأحيائهم.
كان السياق مناسبا لكل هؤلاء المستقلين، ولم يكن فوزهم مسروقا، بل كان مستحقا، فقد استفاد هؤلاء من مناخ انعدام الثقة في الأحزاب السياسية الحاكمة، وحتى المعارضة، حتى سحبوها أحيانا على مجمل الطبقة السياسية، مبشرين ب "عصر جديد"، يقوده المستقلون، ويبدأ من المحليات. كان لهؤلاء حدوس دقيقة، ترى أن المواطن التونسي لم يعد قادرا على منح صوته لأحزابٍ يعتبرها مسؤولة، إلى حد كبير، عما آل إليه أمر البلاد. في مناخٍ صاغت ملامحه موجة غير مسبوقة من الإضرابات والتحرّكات الاحتجاجية التي فشلت الدولة في إدارتها، بل كانت ضعيفة غير قادرة على التحكّم فيها، أو ضبطها وفق القانون.
ستقدم تونس، في حدود سنة تقريبا، على انتخابات تشريعية، وأخرى رئاسية، تختلف من حيث هندستها الانتخابية، ومنطق الفرز، عن الانتخابات البلدية. ولكن قد تكون بوادر نجاح هؤلاء المستقلين منعرجا مهما يفتح لسيولة سياسية أكثر نشاطا وحيوية خارج صلابة فكي التوافق بين الحزبين الكبيرين. لقد بدأ الحديث عن نوايا تشكيل أطر قد تجمع هؤلاء: منتديات، تنسيقيات، وربما أحزاب؟
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.