سكيزوفرينا غربية بتواطؤ إقليمي

سكيزوفرينا غربية بتواطؤ إقليمي

18 مارس 2024
+ الخط -

السماء نفسها التي تُمطر قنابل في غزّة تُنزِل، ويا للمفارقة، غذاء ودواء. ربما لا تجود لنا أفلام الخيال العلمي عن عبث ما يجري في عالمنا المعاصر وغرابة هذا الصمت الدولي ونحن نشاهد كل هذا التراجيديا الحزينة. هذا هو العقل الغربي في شقائه، والذي ظلّ قائماً على هوة سحيقة بين مثله العقلانية والإنسانية من جهة وما يأتيه في الواقع من ممارسات مخجلة في حق البشر. ... تماماً، تذكّرنا حالة غزّة التي يلقى عليها يومياً من السماء نفسها المفتوحة على الأبد قنابل وأرغفةً بكل التناقضات التي مزّقت الغرب في العصور الحديثة... تماماً حين بدأت فلسفة التنوير تبشّر بإرادة البشر  الحرّة  وعقلانية الإنسان كان صيد البشر في إفريقيا وأميركا قد بلغ أوجه على أيدي هؤلاء الغربيين أنفسهم. تنشط شركات عديدة في قنص  السود ومختلف تقنيات الصيد الآدمي على غرار الشراك والفخاخ والأراجيح الآسرة... تقنيات القياس والوزن المستعملة كانت آخر صيحات التكنولوجيا في ما وصلت إليه الصناعة الغربية آنذاك، فضلاً عن البواخر وتقنيات الملاحة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تواصل وامتدّ على مختلف ردهات القرن التاسع عشر. كانت الثورة الصناعية الهادرة وكبرى الأيديولوجيات الإنسانوية تبشّر بتقدّمٍ إنساني لا نظير له، فانتصار العقل على الخرافة صُوّر معركة البشر ضد التخلّف والنور ضد الظلام. ولكن هذه  العقيدة ذاتها كانت تبيد حضاراتٍ وشعوباً بأكملها. كان البارود الذي يُطلق على شعوبٍ أخرى لا تقل "إنسانية" عن إنسانية الغرب يطمس إلى الأبد بشراً وقيماً ولغات وطرائق عيش ... تم ذلك بكل برود وصلف. تثبت دراسات عديدة جريئة أن بعض الفلاسفة والمفكّرين حتى ساسة "تقدّميين" كانوا أصحاب أسهم في شركات التجارة بالعبيد ومصانع تكنولوجيا القتل، فضلاً عن استخدام آخرين منهم مُخبرين وجواسيس للجيوش الغازية التي كانت تدكّ مدناً آمنة وغابات مسالمة، لم تبلغ مطلقاً وحشية ما بلغه الاستعمار. والغريب أن المحتلين أنفسهم كانوا يصنفون تلك الشعوب بالمتوحّشة... كانت المعركة حتى تلقى مشروعيّتها لدى النخب الفكرية والسياسية تسوّق كأنها صراع محتوم بين الخير والشرّ، بين التقدّم والتخلف، بين التحضّر والتوحش ... ليست هذه السكيزوفرينيا طارئة، بل هي أصيلة في "جينات" العقل الغربي... لم تكن مدرسة فرانكفورت على خطأ حين أشارت إلى هذه الثنائية المدمّرة التي شقّت العقل الغربي.

الرفاهية التي نحياها، حتى لا نقول البذخ، مقارنة بالوضع المأساوي وغير المسبوق، لا تجيز لنا أن نقف ضد أي مساعدة

تضعنا مثل هذه المبادرات أمام شقاءٍ لا مثيل له، فكل الخيارات تبدو لنا مؤلمة، ولا ننجو من عذاب الضمير، ونحن ننحاز إلى أحدها. سيكون من المؤلم لو طالبنا مثلاً بإيقاف تلك المساعدات واعتبارها "ضحكاً على الذقون"، أو "ذرّ رماد على العيون"، والناس في غزّة  يأملون أن تصل إليهم ولو قطرة ماء. سيكون مثل هذا الموقف مزايدة غير أخلاقية أصلاً. يقول مثل عامي  تونسي ما معناه "لا يشعر بالجمرة إلا من يدوس عليها". الرفاهية التي نحياها، حتى لا نقول البذخ، مقارنة بالوضع المأساوي وغير المسبوق، لا تجيز لنا أن نقف ضد أي مساعدة، حتى لو كانت على شاكلة هذا الإنزال الجوي الماكر. السكوت عن هذا النفاق الأخلاقي الذي تمارسه الولايات المتحدة بدعوى نُبل مبادرتها تضعنا أيضا في خانة مشاعر الألم واللوم، ونحن نبصر تماماً عنجهيّتها، وهي التي صوّتت دوماً ضد مشاريع قرارات مجلس الأمن حينما تعلقت بوقف إطلاق النار.  
الميناء الذي تحرص الولايات المتحدة على تجهيزه قريباً من أجل إدخال المساعدات بطريقة أكثر "جدوى وعقلانية" تجنّباً للأخطاء القاتلة ولصورة السكيسوفرينا التي أضحت مكشوفة أمام الجميع يتنزل تماماً في التوجه ذاته، وربما أخطر، لاعتباراتٍ عديدةٍ لم يعد كشفُها من باب السرّ أو التخمين. رغبة الولايات المتحدة هي ذاتها رغبة الكيان الصهيوني.. عزل المقاومة وتأليب الرأي العام الغزّاوي عليها وحشرها في الزاوية، خصوصاً أن تقديرات العدو أن حالة الإنهاك التي تصيب الفلسطينيين في غزّة ستدفعهم، في النهاية، إلى تدبر الخلاص الفردي.

تبحث إدارة الرئيس بايدن عن تخفيف الضغط، وهي التي دخلت أشواطاً معقّدة وصعبة من ماراثون الانتخابات الرئاسية

حين تنجز على أرض الواقع  مثل هذه المبادرات سيتحرّر العدو الصهيوني والولايات المتحدة من حالة الغضب المتصاعد ضدهما ومن كل المحاكمات الممكنة، على اعتبار أن ما يحدث في غزّة  ينضوي تحت جرائم حرب عديدة، منها التجويع المميت والإبادة الجماعية. ستبحث الولايات المتحدة أيضاً عن بعضٍ من راحة ضمير، خصوصاً أن الاحتجاج الداخلي اتخذ تعبيرات صادمة، فسيظلّ انتحار الجندي الأميركي أرون بوشنيل حاضراً في وجدان الشعب الأميركي تماماً مثل الاحتجاجات  الصادمة  التي عبّر عنها بعض الأميركيين إبّان حرب فيتنام أو في أثناء موجات العنصرية القاتلة التي طاولت السود تحديداً في هذا البلد.
وأخيراً، تبحث إدارة الرئيس بايدن عن تخفيف الضغط، وهي التي دخلت أشواطاً معقّدة وصعبة من ماراثون الانتخابات الرئاسية التي سيُعلن الفائز عنها فيها في الخريف المقبل.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.