قميص شكري بلعيد سيظلُّ مرفوعاً

قميص شكري بلعيد سيظلُّ مرفوعاً

01 ابريل 2024

تونسيون مع صورة شكري بلعيد في العاصمة بعد الحكم على المتهمين بقتله (27/3/2024/فرانس برس)

+ الخط -

بعد ما يناهز 11 عاماً، نطقَ القضاء التونسي في طوره الابتدائي (الأول) بأحكامه في قضية اغتيال اليساري شكري بلعيد، تراوحت ما بين الإعدام والمؤبّد وعقود من السجن، وطاولت ما يزيد عن عشرة جناة. إنها خطوة مهمة في معرفة الحقيقة، في انتظار محاكمة قتلة محمد البراهمي، الذي اغتالته أيضاً في العام 2013 جماعات إرهابية. تشكّل معرفة الحقيقة ركناً هاماً في عدالة القضاء وترتيب الذاكرة الجماعية، فضلاً عن معاقبة الجناة. تمكّن القضاء التونسي من حسم ملف معقد وشائك لم يخلُ من التسييس والتوظيف، غير أن صدور الحكم قابله جميع الأطراف بالترحاب، ولم يطعن أحدٌ في نزاهته، رغم ما تلاه من تصريحاتٍ يمكن أن تكون مجال تجاذبات مستدامة، خصوصاً في سنة انتخابية سيكون فيها هذا الملفّ تحديداً مجالاً للاستثمار السياسي.

لم يشر الرئيس في حملته الانتخابية مطلقاً إلى ملف الاغتيالات السياسية في البلاد، وكان ذلك موقفاً مدروساً

سارع الرئيس قيس سعيّد، حين صعد إلى سدة الرئاسة في 2019، إلى استقبال أرملتي الراحلين، بلعيد والبراهمي، ملتزماً بإصراره على معرفة الحقيقة، التي لا تعني العائلتين فحسب، "بل الشعب التونسي بأكمله". كان ذلك اعترافاً منه بالجميل لقسمٍ واسعٍ من اليسار الذي انتخبه في الدور الثاني، حين واجه سعيّد خصمه نبيل القروي. كان الرجل يردُّ الجميل لهذه العائلة اليسارية الموسّعة. كما أن الرئيس، من خلال هذا الملف شديد الحساسية، عثر على مدخلٍ مناسب لاتهام القضاء مجدّداً بالفساد، وقد كان يبحث عن مبرّرات للإجهاز عليه وتطويعه لاحقاً. لم يشر الرئيس في حملته الانتخابية مطلقاً إلى ملف الاغتيالات السياسية في البلاد، وكان ذلك موقفاً مدروساً بحثاً عن ضمّ جلّ الأطياف السياسية إليه أنصاراً. ودليل ذلك أن هذا الصمت الوظيفي قاد لاحقاً إلى أن يجمع الإسلاميين واليساريين في صفوفه في أثناء الطور الثاني من الانتخابات الرئاسية. كان المدخل الأسلم لـ "إصلاح القضاء"، حسب رؤية الرئيس، ملف اغتيال بلعيد والبراهمي، لذلك استعمله حجةً لشيطنة القضاء ذاته، وجعله اللافتة الكبرى لتشريع ما قام به لاحقاً، على غرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وعزل عشرات القضاة بجرَّة قلم، في سابقةٍ غير معهودة في تاريخ القضاء في البلاد، رغم أن المحكمة الإدارية ألغت هذه القرارات ولم تلتزم بها وزارة العدل. حرص سعيّد على أن يستعجل القضاء لإصدار أحكامه في ملف بلعيد، وهو في سنة مفصلية، آخر سنة في عهدته الانتخابية، وفي الوقت نفسه، ستُجرى الانتخابات فيها على الأرجح في الثلاثية الأخيرة من السنة الحالية، حسب تأكيدات الهيئة العليا للانتخابات، وبذلك يكون سعيّد أمام الرأي العام قد احترم تعهّداته التي أطلقها عند انتخابه رئيساً.

يد خفية قادرة على التخطيط الاستراتيجي، ومن نفّذ الاغتيال، وهم الإرهابيون، ليسوا إلا دُمى تحركها دوائر استخباراتية دقيقة التخطيط

جاءت مواقف الأطراف المختلفة إيجابية. فإثر صدور الحكم، سارعت حركة النهضة إلى إصدار بيانٍ مُطوّل أثنت فيه على نزاهة القضاء التونسي، رغم كل الضغوط التي تُمارس عليه. لم يذهب الحكم إلى إدانة أي عضوٍ منتسبٍ لحركة النهضة، وهو ما يؤكّد مرّة أخرى براءة الحركة من جريمة الاغتيال. وندّدت الحركة بهيئة الدفاع عن شكري بلعيد التي حاولت الضغط على القضاة وتوريطها في جريمة الاغتيال هذه، وبالأجندة المشبوهة لهذه الهيئة في استهدافها باطلاً من أجل النّيل منها، معتبرة أن الحجج والقرائن تؤكّد بشكل قطعي براءتها. وأنه آن "لمسلسل المتاجرة بدم بلعيد أن يتوقف"، ودعت مرّة أخرى إلى فتح باب المصالحات الكبرى التي من شأنها أن تنهض بالبلاد وهي تمرّ بأزمة خانقة. في حين اعتبرت الهيئة أن صدور الحكم جاء نتيجة نضالاتها التي لم تنقطع أكثر من عشر سنوات، من أجل معرفة الحقيقة ومعاقبة الجناة، وادّعت أن المحاكمات ستتواصل من أجل معاقبة "من خطّط وموّل ودبّر اغتيال الشهيد"، ملمّحةً مرّةً أخرى إلى حركة النهضة. وبقطع النظر عن ردود الأفعال تلك، استفادت جلّ الأطراف من صدور الأحكام، بما فيها القضاء نفسه الذي حرص على بيان جدّيته ونزاهته في التعامل مع الملفّ، غير أن نصف الرضا بات جلياً على ألسنة هيئة الدفاع، التي تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ذراع سياسية لليسار، لا يريد معرفة الحقيقة فحسب، بل تلبيس القضية لطرف سياسي بعينه، أيضاً. لذلك، سيحرص مرة أخرى على جرّ حركة النهضة إلى القضاء بذات الجريمة، رغم صدور تلك الأحكام، إذ لا يمكن أن ننكر أن هذا الملف بالذات قد أنهك "النهضة" وأضعفها سياسياً ورمزياً، فاضطرت بعد اغتيال بلعيد مباشرة إلى الخروج من الحكم، وقبول الحوار الوطني، ودفعت ثمناً باهظاً للمسؤولية الأدبية والسياسية عن تلك الجريمة.
يعلم من قتل شكري بلعيد تماماً أنه زرع شرخاً عميقاً سيجعل المصالحة بين الإسلاميين واليسار شبه مستحيلة، وأنه ورّث الأفرقاء العداوة لأجيال متعاقبة، وأن الانتقال الديمقراطي سيتعثر نتيجة هذه الخصومة التي تحوّلت إلى عداوة قاتلة. إنها يد خفية قادرة على التخطيط الاستراتيجي، ومن نفّذ الاغتيال، وهم الإرهابيون، ليسوا إلا دُمى تحركها دوائر استخباراتية دقيقة التخطيط.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.