في الحاجة إلى الرئيس العاقل

في الحاجة إلى الرئيس العاقل

06 نوفمبر 2018

(إبراهيم الصلاحي)

+ الخط -
يكتسب الزعيم، أو الرئيس، في بلادنا العربية أهميَّة خاصة، بما يتوفَّر عليه من صلاحياتٍ فعليَّة، وقدرةٍ على الانعطاف ببلده نحو الأمن، أو نحو الهاوية. وعلى الرغم من أهميَّة المحيطين به، من مستشارين وأعوان، إلا أن الواقع الفعليَّ العربيّ، عموما، وفي الأقطار الأكثر تعرُّضا للاستبداد، خصوصا، يشهد على قدرة الحاكم العربي على تشكيل تلك الحاشية، بالإقصاء، أو التقريب لكل من ينسجم مع رؤيته (إذا صحّ استحقاقه هذه الرؤية). لذلك مِن المبالغة إلقاءُ المسؤوليَّة على المُقَرِّبين، إلا إذا كان الحاكم منعزلا عمَّا يجري في بلده، وحولها، أو كان عارفا، لكنَّه ضعيفُ الرأي، يَسْهُل التأثير عليه، أو توجيهه، وهذا قد يحدث في بعض القرارات الجُزْئيَّة. وإذا زادت مساحة التأثير أو التوجيه، فذلك يتطلّب اتفاق تلك الحاشية فيما بينها، دوما، وهو يشي بضعف الحاكم، وعدم استحقاقه موقعه، أصلا.
وفي كلِّ الأحوال، تبقى المسؤولية على الحاكم، الفعليّ، في تحمُّل مسؤولية إقرار القرار، ثم الإيعاز بإنفاذه، حتى لو لم يكن هو مصدر القرار من البداية، ولا سيَّما حين لا تكون الدولة محكومة، فعليًّا، بمؤسَّساتٍ محدَّدة الصلاحيَّات.
تأتي أهميَّةُ هذا القول من مُجْمَل الأضرار الفادحة التي جرَّها على العرب والمنطقة حكَّامٌ، أو نافذون، تفرّدوا في قراراتٍ انعطفت ببلادهم وبالمنطقة إلى حروبٍ مدمِّرة، أو إلى فقدان الاستقرار السياسي والاجتماعي، أو إلى تهديد السِّلْم الأهليّ، وتوهين النسيج المجتمعي. وليست الأمثلة للأسف بعيدة عن الأذهان، قرار صدّام حسين احتلال الكويت، واستجلابه أميركا، عسكريًّا، هذه المرَّة، أو تمهيده لذلك، ثم ما انفتح على العرب والمنطقة من باب شرٍّ لم يُغلَق، ثم اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، وما أحدثه في لبنان، من غَليَان، وما تَبِعَه مِن نزاعاتٍ، وخسائر اقتصادية ارتكست بلبنان إلى أزماتٍ مستعصية، انعكستْ على حياة الناس وحاجاتهم الحيويَّة. ثم قرار الجنرال عبد الفتاح السِّيسي فضَّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، وما جناه على تجربة الوصول السِّلْمِيِّ إلى السُّلْطة، والنكوص بمصر، سريعا، إلى ما كانت عليه، أو أسوأ، من حُكْم فرديٍّ، عسكريٍّ، لا تكبحه عن الاستبداد مؤسساتٌ، ولا أحزابٌ حقيقيَّة معارضة، والنتيجةُ إفسادُ الحياة السياسية في مصر، وإهانة الإعلام بهذا التوظيف الفجّ والمنفّر، لتشويه ليس فقط الجماعة الأكثر تهديدا، الإخوان المسلمون، وإنما كلّ معارض، أو حتى كلّ مقترِح رأيا، لا يروق للسيسي، ولا ينسجم مع طموحاته المتضخِّمة.

ثم كانت الهزَّة الكبيرة التي أحدثتها جريمةُ اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، والتي تتزايد الأدلَّة على وقوف مستوى سياسيٍّ رفيع وراءها، كما صرّح، أخيرا، الرئيسُ التركيُّ رجب طيِّب أردوغان، وكما يتفق، مع الموقعيَّة الفعليَّة لمحمد بن سلمان في السعودية، فهو وليُّ العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع. كما أنه يرأس مجلسي الشؤون السياسية والأمنية، والشؤون الاقتصادية والتنمية، السعوديين.
وإذا كانت هذه بداياتُه، بعد حرب اليمن، وتأجيج الخلاف مع قطر إلى حصارها، فمستقبل المنطقة غيرُ مطمئن بالمرَّة، بهذا الانتقال ممَّا سُمّيت السياسة الهادئة، إلى ما يشبه ردّة الفعل المبالَغ فيها، إلى هَوْجائيَّةٍ غير محسوبةِ التداعيات؛ ما يعرّض الدولة في السعودية إلى مزيدٍ من الضغوط والابتزازات غير الهيّنة التكاليف، ليس على الدولة فقط، ولكن يدفع ثمنها المواطنُ السعودي.
ولكل ما سبق، تمسّ الحاجة في البلاد العربية (سيما في هذه المرحلة المأزومة بالنزاعات الدموية، والمهدَّدة، بأزمات اقتصادية لا يزال العالم يحاول تفاديها)، تمسّ الحاجة إلى منسوبٍ أعلى من الحكمة والرُّشْد، وهذه الصفات مرتبطة بالنُّضْج الطبيعي في الإنسان، ثم بقدرته على اكتسابها، وأحيانا، يكون مزيدُ الغرور الناتج عن الجهل المُركَّب، عائقا أمام اكتسابها. وعلامةُ ذلك عدمُ الانتفاع بالعواقب، والاستمرار على النهج العقيم نفسه، بل أحيانا الإمعان فيه؛ عِنادا، وتخوّفا من الاتهام بالضعف. ولو كان ثمن ذلك الخراب الكبير.
تحدَّث أبو نصر محمد الفارابي عن الخصال (اجتمعت بالطبع) التي تؤهل الرئيس للرئاسة، ومنها:" أن يكون بالطبع جيِّدَ الفهم والتصوّر لكل ما يقال له، فيلقاه بفهمه على كلِّ ما يقصده القائل، وعلى حسب الأمر في نفسه. وأن يكون جيّد الفطنة، ذكيًّا، إذا رأى الشيء بأدنى دليلٍ فَطِن له على الجهة التي دلّ عليها الدليل".." ثم أن يكون محبًّا للتعليم والاستفادة"..." ثم أن يكون بالطبع محبّا للعدل وأهله، ومُبْغِضًا للجُور والظلم وأهلهما"..." ثم أن يكون قويَّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يُفعَل". ولا تلزم الخَصْلة الأخيرة، فقط، في المبادرة إلى الأعمال، وإنما أيضا في الرجوع عمّا ثبت لديه انحرافُه عن العدالة والمصلحة. وهذه الخصال عموما، وغيرها مما ذكر الفارابي في كتابه "آراء المدينة الفاضلة ومضادّاتُها" ليست لمدينةٍ مثاليَّة، لكنها شروط دُنيا، وأساسية لأيِّ شخصٍ يقبض على مقادير البلد والناس، ولا سيَّما حين يحوز صلاحياتٍ كبرى، وينعدم تأثيرُ أهلِ الرأي الحقيقيِّين، أو يُزَجُّوا في السجون والتعذيب.