عن جبهة الإنقاذ التونسية

عن جبهة الإنقاذ التونسية

15 ابريل 2017
+ الخط -
قبل أشهر من تنظيم الانتخابات البلدية (17 ديسمبر/ كانون الأول 2017)، شهدت تونس ظهور "جبهة الإنقاذ والتقدّم بتونس" (2 إبريل/ نيسان2017)، وهي تكتّل سياسي معارض، أعلنت تأسيسه عشرة أحزاب (حركة مشروع تونس، والحزب الوطني الحر، والحزب الاشتراكي، وحزب العمل الوطني الديمقراطي، والثوابت، وتونس المستقبل، وحركة الشباب التونسي، والحركة الوسطية الديمقراطية، وحزب الوحدة الشعبية، والمنتمون للهيئة التسييرية لنداء تونس). ورفع المشاركون في الجبهة شعار إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية، ومن استشراء الفساد والمحسوبية، وتنادوا بلمّ شتات المعارضة لتحقيق التوازن السياسي مع الائتلاف الحاكم، وللحدّ من تزايد شعبية حركة النهضة التي نعتوها بـ "القطب الرجعي"، وأخبروا أنّ غايتهم تقديم بديل عن منظومة الحكم السائدة، وبلورة "استراتيجية موحّدة"، لكسب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ويبدو هذا التوجّه نحو الخروج بالمعارضة من الارتباك إلى الفاعلية، ومن التشتت إلى الانتظام تحت راية سياسية جامعة، مفيداً في حال كانت الأحزاب المؤتلفة ذات هوية مرجعية متقاربة، وذات استراتيجية برامجية واضحة، وذات رموز كاريزمية جاذبة وعمق شعبي ظاهر. وهي معطياتٌ غير متوفّرة بالقدر الكافي في جبهة الإنقاذ والتقدّم. ففي مستوى المرجعية، يصدر المنتمون إلى الجبهة الوليدة عن خلفياتٍ أيديولوجيةٍ متنافرة، فمنهم القومي والليبرالي واليساري، وهو ما يجعل مقارباتهم الشأن العامّ متباينة، بل متعارضة على نحوٍ يصعب معه تحويل التحالف من كونه فكرة أو شعاراً إلى كونه استراتيجية عمل يومي جامعة.
وفي مستوى البرنامج، تعهّد الموقّعون على البيان التأسيسي للجبهة بالدفاع عن السيادة الوطنية، واستقلالية القرار التونسي، وأعلنوا تمسّكهم بقيم الجمهورية، وحرصهم على تعزيز مكاسب 
المرأة والتمكين للشباب، وعزمهم على مكافحة الإرهاب، وكشف شبكات التسفير إلى بؤر التوتّر، ومحاسبة مموّليها وداعميها والمشرفين عليها. والملاحظ أنّ هذا البرنامج، على أهمّيته، غلب عليه العموم وغاب عنه التفصيل، وجاء في شكل عناوين كبرى، يلتقي عندها معظم التونسيين. ومن ثمّة، لم تأت الجبهة بجديد، بل اكتفت بتوصيف الواقع، وتقديم وعود جذّابة يتبنّاها الائتلاف الحاكم نفسه. ولم تتجاوز ذلك إلى بسط خطط موضوعية، وبدائل إجرائية لتحويل تلك الوعود إلى منجز واقعي. كما لم تقدّم مشاريع حلول ممكنةٍ لمعضلات البطالة، والمديونية، وتراجع نسبة النموّ، وتخلّف التنمية الجهوية في الداخل التونسي، وغير ذلك من التحدّيات. وفي المقابل، حرصت الجبهة، في خطابها الافتتاحي، على استعداء حركة النهضة، وبلغ الأمر برئيس الاتحاد الوطني الحرّ، سليم الرياحي، درجة اتهامها بـ "ممارسة الإرهاب الداعشي الاجتماعي". والواقع أنّ هذا الخطاب القائم على التأسيس للذات عبر تقويض الآخر يثير مخاوف تونسيين كثيرين يخشون العودة إلى مرحلة الإقصاء والاستقطاب والتنافي، وإهدار الوقت والجهد في الجدل حول الهوية والنمط المجتمعي والتمييز على أساس أيديولوجي، وهي مسائل يفترض أنّ الاجتماع التونسي حسم المزايدة السياسية حولها من خلال التصديق على الدستور الجديد الذي سلّمت حركة النهضة بمضامينه وبرهنت عمليّا، على مدى سنواتٍ من الثورة، قبولها بالتعدّدية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.
وفي ما يتعلّق بالعمق الشعبي، فإنّ ثمانية من الأحزاب المكوّنة لجبهة الإنقاذ والتقدّم غير ممثّلة في مجلس نوّاب الشعب، ولا تحظى بامتداد معتبر بين الناس، وثبت فشلها في كلّ الاستحقاقات الانتخابية السابقة. أمّا الحزبان الممثّلان في البرلمان (حركة مشروع تونس والاتحاد الوطني 
الحر) فيعانيان من تجاذباتٍ داخلية، ومن حركة تسرّب أعضائهما نحو "نداء تونس". وفي هذا السياق، استقال بعض أنصار حركة مشروع تونس لعدم استشارة القواعد في شأن الانضمام إلى الجبهة. يضاف إلى ذلك أن ارتباك الأداء السياسي للحزبين وتردّدهما بين الانخراط في الائتلاف الحاكم والخروج عليه وتراوحهما بين تمجيد رئيس الجمهورية والتحامل عليه، وتأييدهما الحكم التوافقي ونكوصهما عنه، هزّ ذلك كله صورة الحزبين لدى الرأي العام، وأثّر سلبا على ما يحظيان به من مصداقية.
والظاهر أنّ الجبهة الجديدة محكومة بهاجس استرجاع تجربة جبهة الإنقاذ التي عرفتها البلاد سنة 2013، وذلك واضحٌ في مستوى التشابه في الشعار ومضامين الخطاب التعبوي وأهدافه. ويظنّ الجبهويون، هذه المرّة، أنّ بإمكانهم تحقيق مكاسب سياسية كتلك التي أدّت إلى تنازل "الترويكا" عن الحكم سنة 2013، وصعود "نداء تونس" تالياً إلى السلطة. لكنّ المقارنة بين التجربتين غير جائزة، فالمقام غير المقام، والزمان غير الزمان، والرجال غير الرجال، فجبهة الإنقاذ الأولى جاءت محاكاة للتجربة المصرية، وإثر جريمتي اغتيال سياسي في تونس، وإثر حالة من الاستقطاب الحادّ بين "الترويكا" ومكوّنات المجتمع المدني. وقادها رجالٌ لديهم خبرة طويلة في المناورة والتفاوض والتجريب السياسي (الباجي قايد السبسي، حمّة الهمّامي، أحمد نجيب الشابي..). وهي معطياتٌ لا تتوفّر في تجربة الإنقاذ المحدثة، الميّالة إلى استهداف التوافق، واعتباره مغشوشاً والاستعاضة عنه بخطابٍ يفرّق ولا يُجمّع، وهو أمرٌ من الصعب أن يلتفت إليه التونسيون، أو يلتفّوا حوله.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.