تونسيون في داعش... الخلفيات والدلالات

تونسيون في داعش... الخلفيات والدلالات

09 مارس 2016

تونسيون يتظاهرون في سوسة ضد الإرهاب (27 يونيو/2015/الأناضول)

+ الخط -
تفيد تقارير متواترة صادرة عن مراكز بحثية، وجهات استخبارية متعددة، بأن عدد التونسيين الذين التحقوا بمعسكرات تنظيم داعش في بؤر التوتر (سورية، العراق، ليبيا...) يتراوح بين 2500 و3000 ملتحق. وصرحت مصادر رسمية في الحكومة التونسية إن عدد معتقلي التيار السلفي الجهادي يقدر بـ 1200 سجين، فيما ذكرت وزارة الداخلية أنها أحبطت محاولات آلاف الشباب التونسيين للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية، الذي أعلن مسؤوليته عن عمليات إرهابية دامية شهدتها البلاد في سوسة، وتونس العاصمة، ونفذها تونسيون. ومع أن الالتحاق بالتنظيمات المتطرفة كان أمراً متوقعاً، زمن حكم زين العابدين بن علي، بسبب سطوة الدولة المستبدة، وشيوع القمع، والتضييق على الحياة الدينية، فإن تزايد عدد المنتمين إلى الجماعات الجهادية عموماً، وداعش خصوصاً، بعد الثورة يُثير الحيرة، خصوصاً أن البلاد تشهد مرحلة انتقالية ديمقراطية، تتميز بتداول سلمي على السلطة، وضمان للحريات العامة والخاصة، وتأمين لمشاركة المواطنين في المجال العام على نطاق واسع. والسؤال المركزي هنا: لماذا يلتحق الشباب التونسي بداعش، على الرغم من ازدهار الديمقراطية في البلاد؟
ثمّة أسباب ذاتية، وأخرى موضوعية، تدفع الشباب التونسي إلى ركوب الخطر، والانخراط ضمن تنظيم داعش، فمن الناحية الذاتية، يعيش عدد من الشباب حالة نقص ذاتي، متعدد المظاهر، يدفعهم إلى طلب التطرف بديلاً عن وضعهم الذاتي المتدهور. ومن الناحية الموضوعية، تشكل جاذبية داعش، في مستويات شتى، حافزاً لإقبال عدد من الشباب اليائس عليها. كما أن فشل السياسات الحكومية في إدارة الملفات الاجتماعية والاقتصادية، وفي الإحاطة بالفئات المهمشة والمناطق الطرفية، مثّل أرضية مناسبة لنشأة التطرف وامتداده في صفوف الشباب.

في النقص الذاتي
يمكن، في مستوى تشخيص البروفايل الذاتي لعدد من المنتمين إلى تنظيم داعش من التونسيين، الوقوف عند خاصية واسمة لأغلب الذين سقطوا في فخّ التنظيم، ودانوا له بالولاء من الشباب، وهي خاصية النقص التي يعاني منها أغلبهم، وتتجسّد في مستويات مختلفة، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو فكري، ومنها ما هو مادّي أو مهني.
من الناحية النفسية، يعاني مريدو داعش داخل المجتمع التونسي من حالة إحباطٍ، مردّها
الإحساس بالتهميش وانسداد الأفق، فوقوف الشباب على عجزه عن الظفر بفرصة عمل تضمن له كرامته، وإدراكه أنّ التحصيل العلمي لم يعد ضامناً لتحسين الوضع الاجتماعي، ووعيه بأن المجتمع محكوم، إلى حد كبير، بالعلاقات الزبونية، والمحسوبية، والفردانية، والوصولية النفعية، يجعل بعضهم يعيش حالة اهتزاز نفسي، قد تتجلى في الميل إلى الانطواء، والعزلة، وقد تتحول إلى حالة اكتئاب، أو رغبة في الثأر من مجتمع يحسبه "فاسداً"، فيسعى إلى البحث عن مسارب جديدة للتعبير عن الذات، ولو اقتضى الأمر ركوب التطرّف تحقيقاً للكيان، وإثباتاً للوجود. ويزيد من خطورة هذه الحالة ما يعاينه الشباب من فراغ روحي، فأغلبهم عاش طفولته ومراهقته، زمن الدولة القامعة التي كانت تحاصر السلوك الديني، ولا توفر تربية دينية رشيدة، تحمي الشباب من غوائل التطرف. وهو ما يجعل هؤلاء الشباب في متناول شيوخ داعش، فيسهل استقطابهم لمحدودية رصيدهم الفكري، ووعيهم الديني، حتى أنهم لا يميزون بين الإسلام النص والإسلام التاريخ، ولا يدركون مفهوم أسباب نزول آيات الجهاد، ولا يعرفون، أحياناً، آيات المسامحة والملاينة، ولا يعلمون تمحض الجهاد، للدلالة على بذل الجهد في طلب العلم ونشر الخير. فتؤدي بهم حالات النقص الروحي والفكري، وحالات الفشل الدراسي، وحالات النقص المادي والمهني المتمثل في المعاناة من الفقر والبطالة إلى البحث عن سبل لسد النقص، والخروج من شرّ التهميش إلى دائرة الفعل، وذلك عبر الانتماء إلى داعش، وتحويل الأزمة من الأنا إلى الآخر، أعني الانتقال من الذات المأزومة / المعزولة إلى الذات الانتقامية الفاعلة في المجتمع بالتفجير والقتل، وذلك نكاية بالآخر على نحوٍ ما.

سد النقص: جاذبية داعش
على خلاف تنظيم القاعدة، يُسمّي تنظيم داعش نفسه دولة، ويستحوذ على فضاء جغرافي كبير في العراق وسورية، ويدّعي أنه نصير المستضعفين من المسلمين في العالم، وأنه يروم إحياء الخلافة الإسلامية، وإقامة الشريعة، والدفاع عن السنة، ويزعم أن الدولة الإسلامية الوليدة باقية وتتمدّد، وهي دولة ذات موارد اقتصادية متعددة، وذات عملةٍ خاصة، وذات نظام ضريبي ونظام تعليمي وجهاز إعلامي، وذات خلايا نائمة، وأخرى فاعلة، عابرة للحدود، وقادرة على إلحاق الأذيّة بالخصوم في الشرق والغرب. وقد حرص التنظيم، عبر وسائله الدعائية المتعددة، على تقديم نفسه في صورة التنظيم الخارق للعادة، والقادر على ضرب من يريد، وكيفما يريد، في أماكن مختلفة من العالم، وسوّق لتلك الصورة عبر آلةٍ إعلامية متطورة، ووظف التقنية الرقمية، وشبكات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو عالية الجودة، وجدّ في تقديم إخراج فني مميز لانتصاراته، وعملياته الإرهابية، جامعاً بين إيقاع الأناشيد وجاذبية الصورة وفصاحة الخطاب، مستحضراً الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي كثيراً ما تم إخراجها من سياقها النصي والتاريخي، وتحميلها محامل جديدة، تستجيب لرغبة التنظيم في تسويد الذات وإلغاء المخالف.
وقد وجد هذا الحضور التنظيمي والإعلامي والخطابي لداعش صدىً لدى فئة من التونسيين
الذين تغلّقت في وجوههم الأبواب، واعتراهم اليأس من واقع البلاد بعد الثورة، وأبهرهم الصعود القياسي المفاجئ لدولة داعش، فشدّوا إليها الرّحال، عسى أن تسدّ شيئاً من النقص الذي يعانونه. فهم، إذ يتجهون نحو تنظيم الدولة الإسلامية، يبحثون لهم عن دورٍ في العالم، فيُشبّه لهم أنهم يساهمون في توطيد ما تسمى أركان دولة الخلافة، ويستعيدون ما يعتبرونها أمجاد المسلمين في السيادة والانتصار، وقيادة العالم، وذلك في حالةٍ من الانجذاب إلى الماضي، والتماهي مع السلف بطريقة انفعالية، تتجاهل فوارق الزمان والمكان، وتغيّرات التاريخ والجغرافيا. كما أنّ الشباب الملتحق بداعش يرى في التنظيم الحقيقة المطلقة، وفي الدولة الإسلامية المنشودة سفينة الخلاص من الظلم والفساد والتهميش، وهو يتعامل مع خطاب الجماعة على أنه كلام مُنزل، ومع قراءتها للحاضر والماضي والمستقبل على أنها قراءة نهائية، لا يعتريها الخلل من أي جانب، فهو يسلم بتقسيم التنظيم العالم إلى دار حرب ودار سلام، وتصنيفها الناس إلى مؤمنين يستحقون الحياة، وكفار يجوز فيهم القتل، فيصبح مذهب الجماعة هو الدين، وتصبح طاعة التنظيم شكلاً من أشكال التعبد، ويغدو الانخراط في التنظيم عملاً جليلاً، يحقق من خلاله المنتمي نفسه، ويتحول من شخصٍ مُغيّب، مهمش في بلاده إلى بطل أو أمير أو مقاتل أو رئيس كتيبة في معسكرات داعش، يتقاضى شهرياً ما لا يقل عن 500 دولار، فيودّع الفقر والبطالة والعزلة، ولو إلى حين، ويرتدي لباساً جديداً، ويتسمّى باسم جديد من قبيل "أبي مجاهد" أو"أبي مقاتل" أو"القعقاع التونسي"، مستحضراً صورة بطل ماضوي أو أسطوري، تخيله سابقاً، وتماهى معه لاحقاً في ساحة القتال. فهو، إذ يهاجم ما يهاجم، وإذ يقتل من يقتل، يرى نفسه متعبّداً بمن يقتل، ويعتبر مصيره معلقا بالشهادة، والعبور إلى الجنة، أو بالنصر والنكاية بالعدو، وتحصيل الغنيمة. ومعلوم أن الوعد بالإمارة والقيادة، والرفاه، والزواج والمال والبنين، والعلو في الدنيا، والوعد بالجنة ومتعلقاتها في الآخرة من العناصر الأساسية الجاذبة التي تغري الشباب، ويركز عليها خطاب داعش في التجنيد، والاستقطاب. كما أن إيهام التنظيم أتباعه بأنهم أوصياء على الناس، وأنهم أمناء على الرسالة المحمدية، وأن غايتهم نصرة المستضعفين ومحاربة الطاغوت، يجعل شباباً كثيرين مُغرّراً بهم، يظنون أنهم أصحاب رسالة، وأنهم الفاتحون الجدد، حتى أن كثيرين منهم ينظر إلى النظام الحاكم في تونس على أنه نظام كافر، وإلى الديمقراطية على أنها ضلال، ويتوعدون الناس بالعودة إلى البلاد لفتحها من جديد، وإقامة شرع الله بدلاً عن "شرع الطاغوت".
ومن ثمّة يصبح سد النقص بلزوم الغلوّ، واعتناق التكفير، وانتحاء منحى التشدد، والتوجه نحو تقويض السلم الاجتماعي وتصفية الآخر، والتمرد على الدولة، ثأراً للذات التي أهملها المجتمع، وتجاهلتها الدولة.

في مسؤولية النظام الحاكم والمجتمع المدني
ينحدر أغلب الملتحقين بداعش من الشباب التونسي من عائلات فقيرةٍ، أو متوسطة الدخل.
ويسكنون الأحياء الشعبية، الطرفية المحيطة بالمدن الكبرى، أو مناطق الظل في المحافظات الداخلية أو الحدودية، في الوسط، والجنوب، والشمال الغربي للبلاد، وهي مناطق عانت عقوداً من قيام دولة الاستقلال، من التهميش، ولم تنل حظها من مخططات التنمية، ولم يتحسّن حال ساكنيها بعد الثورة، إذ ما زالت معدلات البطالة في تلك الجهات مرتفعة، وتبلغ درجة 40 % ويزيد في صفوف الشباب. كما تعاني من ارتفاع نسبة الفقر التي لا تقل على 30 % من مجموع السكان. ويفتقر الناس، في تلك المناطق، إلى المرافق الأساسية، من قبيل المستشفيات، والمكتبات العمومية، ودور الشباب، والماء الصالح للشراب، ولا تلتفت إليهم أجهزة الدولة، أو الأحزاب السياسية، إلاّ عندما تحلّ بهم الكوارث (الفيضانات، العمليات الإرهابية ..) أو عند المواسم الانتخابية. ويسود أغلب السكان شعور بأنهم مواطنون من درجة ثانية، أو أنهم يقعون خارج الدولة، ويعتري الشباب إحساس بالروتين، واليأس، والخوف من المستقبل، والشوق إلى الهروب من البلاد بأية طريقة بحثاً عن غدٍ أفضل، وكثيراً ما كانت تلك الأوضاع المتردية تربةً مناسبةً لنشأة التطرف، فيندفع عدد من الشباب إلى الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية لضيقهم بالواقع الذي يعيشونه من ناحية، ولرغبتهم في الاحتجاج بطريقة متشددة وعنيفة على السياسات التنموية الجائرة. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ 35 شاباً من مدينة رمادة (جنوب تونس) تركوا أسرهم، في ليلة واحدة مطلع شهر يونيو/ حزيران 2015. والتحقوا في موجة هجرة جماعية بتنظيم داعش في ليبيا، وهو ما يُخبر بامتداد التنظيم في المناطق النائية، واغتنامه الوضع الهش لسكان تلك الجهات، ليستقطب المزيد من الأتباع، خصوصاً من بين الشباب، فداعش يمتد في الفراغ الذي تركته الدولة، وينتشر في ظلّ استمرار السياسات الحكومية التنموية غير العادلة، وفي ظل عدم قيام مكونات المجتمع المدني من أحزاب، وجمعيات أهلية، ومنظمات ثقافية، بدورها في الإحاطة بالشباب، والأخذ بيدهم، والعمل على تأهيلهم للانخراط في دورة التشغيل. والظاهر أنّ منظمات وكيانات سياسية كثيرة لا تبذل الجهد الكافي في تنوير الناس، وفي نشر الثقافة الديمقراطية، وتحصين الشباب من غوائل التطرف.
وكان المفترض تجديد الخطاب الديني، واعتماد منهج المناصحة، والعمل على دفع غلاة الشباب إلى مراجعة أحكامهم الجاهزة، وأفكارهم المسبقة، وتوجيههم نحو الاعتدال، والإيمان بثقافة التسامح، وضرورة التعايش مع الآخر. لكن الظاهر أن أصحاب القرار في تونس بعد الثورة ميالون إلى ترجيح المعالجة الأمنية/ الزجرية على المقاربة الثقافية/ الأنثروبولوجية الشاملة لظاهرة التطرف، فجرى تجميع مئاتٍ من غلاة الشباب، والزج بهم في السجون، وفرض المراقبة الإدارية والإقامة الجبرية على آخرين، وهو نهجٌ، على الرغم من نجاعته المحدودة، يبقى مبتوراً، لأنه لا يُحيط بجذور التطرف، وأسبابه، وقد يؤدي إلى تفريخ مزيد من المتشدّدين.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.