الغريب في نهج السلطة الفلسطينية

الغريب في نهج السلطة الفلسطينية

04 ديسمبر 2017
+ الخط -
لا تبدو السلطة الفلسطينية كيانا سياسيا يتأثَّر، بالقدر الكافي، بالمتغيِّرات السياسية، دوليا، وأميركيا تحديدا، وإسرائيليا، سياسيا، بالمواقف الرافضة للسلام، وميدانيا، بممارسات الاحتلال، واعتداءات مستوطنيه. لم يتأثَّر نهجُ السلطة، جوهريا، بإعادة النظر بالتعامل اللازم، بعد انسداد طريق المفاوضات، وإقرارها بذلك، بعد تمكُّن اليمين الصهيوني العنصري والمتطرِّف، كما لم تتأثَّر بعد تنصُّل أميركا من حلِّ الدولتين، أو خفوت إيمانها به، وبعد خفض اهتمامها بملفِّ المفاوضات، أو التسوية.
كما لا تبدو متأثرة، فعليًّا، باعتداءات المستوطنين المتكرِّرة، ومن جديدها قتلهم المواطن الفلسطيني محمود عودة، في أثناء عمله في أرضه في بلدة قصرة جنوب نابلس. يسمح الاحتلال للمستوطنين بحمل السلاح، مع أنهم لا ينضبطون بأيِّ ضوابط في استخدامه، ويُمنَع الفلسطينيون الذين يقتحم المستوطنون أراضيهم وممتلكاتهم من التسلُّح بأيّ سلاح؛ للدفاع عن أنفسهم، وقت الضرورة (!) ولا تقوى السلطة الفلسطينية على توفير الأمن لهم، أو حمايتهم.
على الصعيد السياسي، وإقرارا بتضاؤل فرص حلِّ الدولتين، يفتح رئيسُ السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الطريق نحو حلِّ الدولة الواحدة، على فلسطين التاريخية، بحقوق متساوية لكلِّ مواطنيها، وذلك في كلمته التي أُلقيت بالنيابة عنه في الأمم المتحدة، وقد يكون هذا إنذارا لإسرائيل، وقادتها الحاليِّين الذين على الرغم من سعيهم إلى دولة يهودية، ذات أغلبية يهودية، على الأقل، أو ذات (نقاء يهودي)، إنْ أمكن، وكلما أمكن، يقضون على خيار الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من يونيو/ حزيران، باشتراطاتهم الجديدة المعلنة، والصريحة أنْ لا دولة غربيَّ النهر (نهر الأردن) سوى إسرائيل، فتلويح أبو مازن بحلِّ الدولة الواحدة يهدِّد تلك الدولة اليهودية، بل يحرمها من المحافظة على أغلبيتها اليهودية، هذا (الخطر) الذي طالما
حذّرت منه دولٌ غربية، وأنَّ استمرار نهج ؤئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يهدّم المقوِّمات الممكنة لدولة فلسطينية يضع إسرائيل أمام معضلة ديمغرافية (تعمل على تجنُّبها برفضها القاطع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم، بل إنها تتوق إلى ترحيل العرب الباقين عنها، أو التقليل منهم)، فإِمَّا أنْ تقبل بدولة واحدة لكلّ مواطنيها، وهذا ينهي الطابع اليهودي لها، ومستحيلٌ أنْ تقبله، أو أنْ تختار أن تكون دولة تمييز عنصري (أبارتهايد)؛ فتُعزل دوليا، وتصبح تحت طائلة العقوبات.
لكن هذا التلويح من عباس ينطوي على استيئاسٍ يزداد في صفوف الفلسطينيين من حلِّ الدولتين؛ بسبب التغوّل الاستيطاني، وبسبب التشكيلة الحكومية الحالية، والتي تجسِّد التحوّل نحو اليمين، واليمين العنصري في المجتمع الإسرائيلي، وفي الجيش.
والغريب أنَّ الخطاب السياسي للسلطة، كما طريقة تعاملها مع الساحة الفلسطينية الداخلية، ومع تهديدات الاحتلال، لا يتغيَّر، فلا تزال السلطةُ مُصرَّةً على المُضيّ باشتراطات المصالحة، ولعلَّ مِن أهمّها وأكثرها حساسيةً نزع سلاح المقاومة، كما قال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وعضو وفدها للحوار، حسين الشيخ، فهو يرفض أنْ يكون السلاح شأنا تنظيميا، ويرى ضرورة إخضاعه للسلطة. ومعنى ذلك أن يذوِي هذا السلاح، أو يُدجَّن؛ لأنَّ سقف السلطة محدود ومحدّد بالالتزام السِّلمي، بل بالتنسيق الأمني، فالمسألة ليست خلافا تنظيميا، مع أنَّ الاختلافات التنظيمية تسبِّب خلافات، وليس الموضوع حول قرار الحرب أو السِّلم، وكيفية اتخاذه، ومرجعية ذلك، لكنه موقف مبدئيٌّ ضدَّ كلِّ مَن لا يزال يريد انتهاج نهج مغاير لنهج السلطة السِّلمي، سواء أكان ذاك الطرف حركة حماس، أو الجهاد الإسلامي، أو حتى من فصائل منظمة التحرير، أو كان فردا فلسطينيا غير خاضع، أو منتمٍ لأيّ تنظيم.
وكأنَّ المشروع السياسي الذي تتبنّاه السلطة يؤتي ثماره، ويَعِد باختراقات حقيقية (!)، مع أنَّ عكس ذلك يظهر من المواقف الأميركية، ليس فقط بالتنصُّل من التزامها بحلِّ الدولتين، ولكن بالتلويح بالعقوبات، إذا ما توجَّهت السلطةُ إلى المحاكم الدولية، ضد الاعتداءات والانتهاكات التي يقرّ بها المجتمع الدولي، وجديد الشواهد على ذلك قرارُها إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، قبل أن تعود وتسمح بنشاطه، شرطَ أن يكون حصرا لخدمة السلام مع الإسرائيليين.
وعلى الرغم من ذلك، لا تغييرَ على لهجة السلطة الصارمة مع الفلسطينيين الذين يؤمنون بأهمية بقاء سلاح المقاومة؛ لحماية الشعب الفلسطيني من الاحتلال ومستوطنيه، هذا الشعب المحتل الذي لا تُبرِز السلطةُ أيَّ بديلٍ حقيقيٍّ لحمايته، فضلا عن وقف مُصادرة أرضه، لصالح المستوطنات، وطرُقها الالتفافية، وغيرها، إلا (المقاومة الشعبية السِّلْمية) التي تغلب عليها الرمزية، أكثر ممَّا هي تكبح فعليًّا تلك الاعتداءات.
والحاصل أنّ القرار الفلسطيني، ولا سيما المصيري، لا يُتَّخذ بالمشاركة الوطنية اللازمة، مِن الكلِّ الفلسطيني، في الوطن والشَّتات، وحتى فصائل الشعب الفلسطيني، لا يُرجَع إليها رجوعا فعليًّا، وأمَّا منظمة التحرير فيَجري تفعيلُها، وقتَ الحاجة، لتمرير قراراتٍ، أو لاستحداث تحوُّلات، أو لتكريس زعامات، تفرض نفسَها، وأجنداتها المسبقة. وكأن السلطة فريق عمل يضطلع بمهمة خاصة، منذور بتحقيقها، من دون التأثر بالتحوُّلات العميقة على طرف الصراع، وهي إسرائيل، مجتمعيا، وسياسيا، ومن دون استيعاب المجريات السطحية غير المُنْبَتَّة عن سياقاتها الفكرية والدينية، وأهمُّها الاستيطان، ثم المواقف المعلنة في موضوع الحدود والقدس واللاجئين، حيث اللاءات القاطعة، وغير القابلة للتفاوض.

هذا الطرف الإسرائيلي غير المساعد الذي لا يكفُّ عن إحراج السلطة، سواء بمواقفه السياسية، أو بسياستها الاحتلالية الاستيطانية، أو بالاعتداءات الاستفزازية، المتمثِّلة بالاعتقالات شبه اليومية في مدن الضفة الغربية الخاضعة للسلطة مباشرة، أو في اعتداءات مستوطنيه الذين ما كان لهم أن يبلغوا هذا الحدَّ مِن العدوان، لولا حماية دولة الاحتلال لهم سياسيا، وأمنيا.
ولا مناص من التكرار أنَّ ممَّا يغري نتنياهو بهذا التعاطي الذي يتجاهل الحقوق الفلسطينية، هو ما يراه، ويسمعه، من التعاطي العربي الرسمي، مع دولة الاحتلال، وهي في ذروة احتلالها، وفي أحدث تصريحاته أنَّ القادة العرب ليسوا عائقا أمام توسيع علاقات إسرائيل مع جيرانها من الدول العربية. وإنما العقبة الكبرى تعود إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي؛ فلا بدَّ، بحسب تقديره، من اختراق الشعوب العربية التي تعرّضت إلى غسيل دماغ تُجاه إسرائيل. وأعرب عن أمله بأنَّ السلام مع الدول العربية سيحصل في النهاية؛ لأنَّ هناك أمورا كثيرة تجري طوال الوقت خلف الواجهة، علما أنَّ الشعوب تحتاج لكي تشفى من غسيل الدماغ الذي قال عنه (!) إلى عمل فوق الطاولة، إعلاميا، وثقافيا، كما بدأ يطفو على السطح، من خلال آراء إعلاميِّين وكتّاب عرب، لكن ربما قصد بما خلف الواجهة ما يوقَد تحت تلك الشعوب العربية من نيران التَّيْئيس، والتشتيت، الفعليّ، بتلك الهزَّات، بل الصدمات المتلاحقة، على كل الصُّعُد؛ ما مِن شأنه، بحسب تقديره، أو تمنيّاته، أن يزعزع، ولو عمليا، في البداية، تلك التصوُّرات عن عداء إسرائيل، بتظهير الرأي الذي يرى إسرائيل أهونَ من غيرها، فالمعركة الدائرة ليست معها، والاحتشاد، والحشد ليس ضدها.

دلالات