معركة قومية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في انتخابات الكنيست

معركة قومية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في انتخابات الكنيست

23 مارس 2015

نواب من القائمة العربية الموحدة يحتفلون بإنجازهم الانتخابي (19مارس/2015/Getty)

+ الخط -

أثبتت انتخابات البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) العشرين بين ما أثبتته أن خيارات الإسرائيليين قلما تتغير، وأن الشطر الأكبر من هؤلاء يستبطنون في ذواتهم صورة المستوطن وشخصيته وهواجسه وأولوياته. المستوطن الذي حل قسراً محل ابن الوطن. كما يبرهن هذا الحدث أن البيئة السياسية المحيطة المتمثلة، أساساً، في ضعف الاستجابة لتحدي الاحتلال والاستيطان لدى الطرف "الآخر"، العربي والفلسطيني، قد زكّت، مجدداً، خيار التطرف لدى الناخب الإسرائيلي، خصوصاً بين الشرائح الوسطى والمهمشة، التي تشكو، كما تردد على نطاق واسع، من تردّي الخدمات، وخصوصاً أزمة السكن، لكن أفراد هذه الشرائح اختاروا، في غالبيتهم، الليكود وأحزاباً دينية وقومية لحل هذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية! ومن ضمن مفاعيل البيئة المحيطة التي لعبت دوراً في ترجيح كفة اليمين المتطرف النفخ في الملف النووي الإيراني، وصعود التطرف حقّاً في المنطقة على أيدي "داعش" والمنظمات الأصولية والإيرانية ونظام دمشق، وهو ما حمل الناخب الإسرائيلي، كما مرشحي التطرف، على استرداد حق التأسيس للإرهاب في المنطقة، ولسان حالهم يكاد ينطق: نحن رواد الإرهاب، أساتذته ومؤسسوه قبل سوانا، ومن حقنا أن نختار أفضل ممثلين لهذا الخيار عبر صناديق الاقتراع. مقابل الإرهاب بالساطور في الشرق المتخلف، نحن أكثر عصرية: صندوق الاقتراع يحدد طريقنا للإبادة القومية والسياسية الممنهجة للشعب الذي كان على هذه الأرض، وانتزاع أرضه، وتسميتها أرضاً لنا تقوم عليها دولتنا.

وبينما خابت تقديرات استطلاعات الرأي بصعود قيادة إسرائيلية جديدة ممثلة في "المعسكر الصهيوني"، حيث جاءت النتيجة معكوسة، فبدل أن يتقدم معسكر إسحق هيرتزوغ وتسيبي ليفني بستة مقاعد على الليكود، إذا بالأخير يتقدم بالعدد نفسه على منافسيه من نخبة الإشكناز. وقد ترك القائمون على الاستطلاعات، مع ذلك، هامشاً واسعاً للخطأ، بالإشارة إلى أن 20% من الناخبين يقررون قائمتهم المفضلة، وهم في طريقهم إلى الاقتراع، وليس قبل ذلك. ويبدو أن 80% من هؤلاء اختاروا بنيامين نتنياهو المفوه الاستعراضي التلفزيوني الذي يبشر بمجد إسرائيل، أما المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فسوف تجد حلولاً لها مع الوقت! وقد تبدّى ذلك خياراً جماهيرياً قومياً، يتقدم على المشكلات الحسية، مع ارتفاع نسبة التصويت إلى أكثر من 70% مقارنة بما هو أقل في المتوسط من نسبة 60% لدى الديمقراطيات الغربية.


تأييد لفظي لحل الدولتين

فور إعلان النتائج شبه النهائية، مساء الأربعاء الماضي، 18 مارس/آذار 2015، كانت الإدارة الأميركية تبدي ضيقها من هذه النتيجة، ومخاوفها من لهجة نتنياهو ضد عرب إسرائيل ورفضه قيام دولة فلسطينية. ولوحظ أن وزير الخارجية، جون كيري، هو من بادر إلى التهنئة السريعة الروتينية، فيما تريث الرئيس، باراك أوباما، قبل قيامه بواجب التهنئة مساء الخميس. وصدرت تصريحات مماثلة من أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، تضمر التشاؤم حيال نتيجة الانتخابات. وعلى الرغم من أن صدى كلماته، في حملته الانتخابية، لم يهدأ بعد، ولم يفارق الأسماع بعد، فإن الفائز في الانتخابات، وأمام هذه الحملة الدولية، سارع إلى التصريح، مساء الخميس، عبر شاشة تلفزة أميركية، بأنه ما زال يؤمن بحل الدولتين، وكل ما يطلبه من السلطة الفلسطينية قطع العلاقات بحركة حماس (مع أنها شبه مقطوعة بين الجانبين على الرغم من المصالحة!) والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، من أجل استئناف المفاوضات.

إذ يحمل التصريح قدراً كبيراً من البروباغاندا، فإنه يأتي لتطويق الخلاف مع البيت الأبيض، ومع بعض الأوروبيين، فرنسا وبريطانيا، بخصوص الموقف من الدولة الفلسطينية، ومع ذلك، قد يرطب هذا التصريح الأجواء الدولية لنتنياهو العائد للمرة الرابعة رئيساً للوزراء. وتأييد حل الدولتين لا يكلف شيئاً غير الجهد اللفظي، وقبل نتنياهو، ردّد زعماء صهاينة، منهم "الحمائمي" شيمون بيريز، أن الاستيطان لا يتعارض مع إقامة دولة فلسطينية! اللعب بالكلمات وتزويج المتناقضات لا يكلف شيئاً، ما دام الاستيطان جارٍ على قدم وساق، ومعه بناء جدار الضم والتوسع (يسمّيه الفلسطينيون، خطأ، بجدار الفصل العنصري، بما يوهم أن هناك فصلاً بين كيانين إسرائيلي وفلسطيني). في ولاية أوباما الأولى، جرى "اصطدام" مع تل أبيب بخصوص الاستيطان، تم حله بتجميد مؤقت تسعة أشهر لبعض مظاهر الاستيطان، من قبيل استكمال ما بوشر في بنائه وعدم بناء وحدات جديدة، ثم انفلت الاستيطان مجدداً. وكان أن صرحت هيلاري كلينتون، المقربة من أوباما، بعد خروجها من وزارة الخارجية، أن الإدارة الأميركية، وليس تل أبيب، كانت مخطئة بشأن موقفها من الاستيطان.

يتردد، الآن، أن البيت الأبيض الذي يشكو من تدخلات نتنياهو في المفاوضات مع الإيرانيين، بخصوص ملفهم النووي، لن يمانع في إصدار قرار من مجلس الأمن، يتبنّى حلاً لدولتين على أساس الوضع الذي كان قائماً عام 1967، مع تبادل أراضٍ على ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز. ربما كان تسريب مثل هذه الأنباء يشكل ضغطاً على نتنياهو، ووضعه تحت طائلة التسبب في عزلة دولية لحكومته. مع ذلك، من واجب الأطراف العربية والفلسطينية التقاط هذه الإشارة، وإلزام البيت الأبيض بها، بدل أن تستخدم لاستفزاز نتنياهو مؤقتاً. في واقع الأمر أن التعايش ظل قائماً بين الإدارتين، الأميركية والإسرائيلية، على الرغم من النفور الجلي بين أوباما ونتنياهو. وإذا كان الأمر يتعلق بضغط مفترض، أو التهديد بشبح العزلة، فقد لجأت إدارة أوباما إلى التنديد بانضمام دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ورأت أن فلسطين ليست دولة كاملة العضوية في المنظمة الدولية، بل هددت بوقف معونات. وهو موقف يجرح في النزعة الأخلاقية لدى الرئيس الأميركي، حين يعتبر اللجوء إلى العدالة أمراً مستهجناً. خلافات بدون ضغوط، هذا ما يسم بعض محطات العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وهذا ما يصرح به المسؤولون الأميركيون علناً بالقول، إن لا محل للضغوط في علاقات الحليفين، فيما الضغوط تشرئب لدى بروز أدنى بوادر خلافات أميركية فلسطينية. والمعارضة الإسرائيلية الجديدة تستفيد حقاً من خلافات البيت الأبيض مع نتنياهو، إذ تجد مادة سياسية ودعائية لشن الحملات، هذا إذا احتفظت هذه المعارضة بتماسكها، بعد فشلها في انتزاع قصب السبق، وفي عودة حزب العمل إلى الحكم الذي خرج منه في عام 2000 ولم يعد.


معركة انتخابية بطابع قومي

يصح في ضوء ما تقدم الاستخلاص بأن هذه المعركة الانتخابية، وما أفضت إليه، بأنها كانت معركة سياسية ذات طابع قومي، لم يسبق له مثيل في تاريخ الكيان الصهيوني. القائمة العربية التي تمثل 14% من المقترعين فازت بـ13 مقعداً زائد أصوات فائضة ذهبت إلى "ميرتس" اليسارية التي زاد عدد نوابها بين النتائج شبه النهائية والنتائج الرسمية، من أربعة إلى خمسة نواب، وفق طريقة احتساب عدد المقاعد. لم يعد العرب الفلسطينيون ملحقين بقاطرة حزب العمل، ولا حتى ميرتس اليساري. أنشأوا لهم قاطرتهم الخاصة، وثبت، في هذه البداية، أنها تسير جيداً على السكة، أما الذين يلتحقون بالليكود، على ندرتهم، فلا يُحتسبون سياسيين عرباً في الوسط العربي الفلسطيني. وقد تقدم العرب إلى الانتخابات بقائمة موحدة مشتركة ذات طابع قومي، على رأس شعارات بيانها الانتخابي "مناهضة العنصرية وتحدّي المشروع الصهيوني". وضمت القائمة يساريين وقوميين وإسلاميين ومسيحيين ويهودي. فازوا كلهم بهذا التمثيل. وقد اتهم نتنياهو اليسار، ويقصد حزب العمل، أساساً، بأنه نقل العرب بالحافلات إلى صناديق الاقتراع، وليس معلوماً، حسب زعم الزاعم، لماذا لم يصوت العرب لمن حملوهم بالحافلات. ويبدو أن نتنياهو كان يريد للعرب أن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع مشياً على الأقدام، على أمل أن تغلق صناديق الاقتراع قبل وصولهم إليها. مع أن نسبة تصويت الوسط الفلسطيني (أكثر بقليل من 70%) تماثل إن لم تكن أقل بقليل من نسبة تصويت اليهود، وكان الأمل أن يكون التصويت أكبر. إذ يبدو أن بعض العرب الفلسطينيين غير معتادين على وجود قائمة عربية مشتركة.

ظهور هذه القائمة، وما حققته من نتائج جيدة، يشكل عهداً جديداً في الحياة السياسية لفلسطينيي الداخل. لن تُستنزف، بعد اليوم، جماهير الداخل في معارك فئوية بين هذا الطرف الحزبي وذاك. لن يكون بالإمكان مستقبلاً لطامح سياسي أن يترشح خارج الكتلة العربية، إلا بالتضحية في منزلته الوطنية والقومية. وإذا كانت الضرورات السياسية تقتضي، أحياناً، التنسيق مع كتلة إسرائيلية ما، فليكن ذلك من خلال الكتلة العربية، من داخلها لا خارجها، وبالالتحاق بها. وأبعد من الحدث الانتخابي والتمثيل النيابي، فإن نشوء الكتلة العربية سوف يسهم في تنمية الوعي الوطني القومي، وخصوصاً لدى الأجيال الشابة، بما يجعل من الأسرلة شيئاً، والاضطرار لحمل الجنسية الإسرائيلية شيئاً آخر مختلفاً.

إلى مأسسة "الكتلة العربية"

سيكون أمام الكتلة العربية، الآن، مأسسة وجودها، بالانتقال من ائتلاف ظرفي للأحزاب، إلى بناء مؤسسة جماعية واحدة، لا تكون بديلاً من الأحزاب، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة الإسلامية الجناح الجنوبي، الحركة العربية للتغيير، بل تمثل جسماً سياسياً، يعكس أوجه التلاقي والتعاون بين هذه الأحزاب، وينظم عملها الجماعي حاضراً ومستقبلاً.

من حق من يشاء، ومن زاوية التكوين العرقي والقومي لجمهور الناخبين، القول، الآن، إن الدولة الإسرائيلية داخل حدود عام 1948 باتت تحمل ملامح دولة ثنائية القومية، أما القول، إنها دولة يهودية، فإنه "لا يضعف فقط من ديمقراطيتها"، كما يقول بذلك يساريون إسرائيليون، بل يمُسّ بالتعددية القومية القائمة، وبالتعايش المفترض بين المكونين القائمين، العربي واليهودي.

فلسطينياً على مستوى السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، كانت خيبة الأمل واضحة في ردود الفعل الرسمية، وفي الجهر بأن الإسرائيليين اختاروا العنصرية والاستيطان. وتسهم النتيجة المخيبة، ويتعين أن تسهم، في شد عضد الموقف الفلسطيني، ببدء وقف التنسيق الأمني الموصى به من المجلس المركزي، وإحياء المصالحة مع حماس، والاستعداد لخوض مواجهة دولية في المحاكم الدولية، خصوصاً وأولاً مع الاحتلال، من دون التطير من ردود الفعل الأميركية، مع عدم الزهد بالتواصل مع واشنطن، كلما كان ذلك ممكناً ويخدم المصلحة الوطنية. لم تعد هناك أية بيئة سياسية مواتية للمفاوضات، وحتى الأطراف الغربية الأوروبية والأميركية، فإنها لم تعد تضغط في سبيل استئناف التفاوض، أو حتى تطالب به، بعد الانكشاف المتزايد في مواقف نتنياهو. لن يؤدي هذا الموقف إلى موت العملية السلمية، فهي ميتة سريرياً على الأرض، وغائبة عن الأجندات الإقليمية والدولية.

إذا كان هناك من تفاوض فعلي، فهو الذي تمثله المواجهة السياسية مع حزب عنصري استيطاني، يقود حكومة الاحتلال، وما يمكن أن تثيره هذه المواجهة من تفاعلات في الوسط الإسرائيلي، وبما يعيد الاعتبار إلى قضية فلسطين، عربياً وإقليميّاً ودولياً، علماً أن الشروع في وقف التنسيق الأمني سيؤدي، حُكماً، إلى ضغوط من طرف الاحتلال، أو بالأحرى مضاعفة الضغوط القائمة، بما لا يترك خياراً سوى وقف احتجاز الحركة المدنية المناهضة للاحتلال، وإطلاق المواجهة الجماهيرية التي لن تؤدي إلى "فوضى أمنية"، بل ستفسد صفاء أمن الاحتلال ومستوطنيه.