قبل الهدنة وبعدها... الأنظار مُجدّداً إلى مصر

قبل الهدنة وبعدها... الأنظار مُجدّداً إلى مصر

09 مارس 2024
+ الخط -

تبدو فرص الهدنة في غزّة مُرجّحة، في ضوء مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، وما يتيحه من تعديلات وإضافات واجبة عليه، لسدّ النقص فيه لضمان انسحاب القوات الغازية من المناطق المأهولة ومنع استغلال الهدنة لاعتقال مزيد من أبناء القطاع، ولتسهيل التفاوض على النقاط العالقة بما يكفل إفراجاً متزامناً عن أسرى فلسطينيين وإسرائيليين، والنظر في مصير أزيد من ثمانية آلاف موقوف جرى اعتقالهم في الضفة الغربية وقطاع غزّة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والدفع باتجاه الإفراج عنهم. وهناك حاجةٌ لاستثمار الرغبة الأميركية في محاولة تبرئة الذمّة، للتوصل إلى قرار يمتلك درجةً من المعقولية، ويتيح تطبيقُه تكثيف الجهود للتوصل إلى حلولٍ أطول وأكثر استدامة، وهو ما يتوافق عليه أعضاء مجلس الأمن الدائمون وغير الدائمين. ومن شأن صدور مثل هذا القرار أن يشكّل عامل ضغط لإنجاح مفاوضات الهدنة، وعلى مسافة زمنية قصيرة من الموعد المستهدف، حلول شهر رمضان. كل ذلك من غير استبعاد، بل مع ترجيح أن يعمل نتنياهو على إفساد المفاوضات ووضع عراقيل أمامها كلما جرى تذليل عقبةٍ منها، علاوة على المحاذير المتعلقة بأوجه التنفيذ في حال حقّقت المفاوضات نجاحا، إذ يقوم التخطيط الإسرائيلي على الوجود المنفرد على الأرض، ومنع أي طرف خارجي من مراقبة الوضع، بما في ذلك الأمم المتحدة والهلال الأحمر الفلسطيني وبلدية غزّة والمراسلون الأجانب.

من باب الحرص على نجاح أي اتفاق هدنةٍ منتظر، تثور الحاجة إلى ضمان تنفيذٍ نزيهٍ له، والضغط كي لا تنفرد قوة الاحتلال بالسيطرة على كل شيء والتفرّد في القرارات. ليس هذا التحرّز سابقاً لأوانه، فالعبرة في سلامة التنفيذ، وفي إشرافٍ متوازنٍ على مراحله. وكل اتفاق أو قرار بهدنة في النزاعات يكون مصحوباً عادة بتشكيل قوة دولية لحماية الاتفاق والسهر على سلامة تنفيذه. ويسع الوسطاء وضع ذلك في الحسبان، ما أن يتم التوصل إلى اتفاق، فمن العبث أن تكون القوات الغازية التي انتهكت كل القوانين هي الخصم والحكم، وأن تنفرد بالوجود على الأرض، وأن تُديم حالة التوتّر الخطيرة بعد ما اقترفته من جرائم وحشية تعزّ على الحصر.

ولا يتوقّف الأمر عند ظروف التوصّل إلى هدنة ستة أسابيع وما يليها من خطواتٍ تنفيذية، إذ يرى نتنياهو ومعه مجلس حربه في الهدنة مجرّد إيقاف أو تأجيل مؤقت لاجتياح رفح. وفي زيارته لواشنطن، لم يتوان عضو مجلس الحرب بني غانتس عن التصريح بالتمسّك بالهدف التالي، رفح، وقد زعم الرجل "الوسطي" أن التخلّي عن اجتياح رفح يشبه إطفاء 80% من الحريق وترك النيران تشتعل في ما تبقّى، وهو تشبيه فاسد، فالوضع على العكس، فقد أشعلت قوات الاحتلال النيران في 80% من قطاع غزّة، وترغب (مدفوعة بنزعة إرهابية بدائية)، بإحراق ما تبقى. وكالعادة، لا يمانع البيت الأبيض، غير أنه يريد "ضماناتٍ لحماية المدنيين"، وقد وعد غانتس، وكما تعد الذئاب في القصص الخرافية، بتأمين هذه الضمانات.

مصير غزة شأن فلسطيني ومصري وعربي، وليس شاناً لمجلس الحرب الإسرائيلي

إذا كان هناك من توجّه نحو حلٍّ أطول ومستدام، فإن نقطة البداية هي منع اجتياح رفح بصورة قاطعة وبكل الوسائل المتاحة، وحرمان القوة الغازية من إطلاق غرائزها الدموية. وسبق لمصر أن حذّرت بعبارات مختلفة من استهداف رفح المحاذية للحدود المصرية، كما حذّرت من محاولة السيطرة على شريط صلاح الدين (أو فيلادلفيا)، الحدودي (14 كيلومترا)، فيما ادّعى مجلس حرب نتنياهو أن اجتياح رفح "لن يتم إلا بعلم القاهرة وبمراعاة مصالحها"، في محاولة مكشوفة لتحييد القاهرة عن مسألةٍ تمسّ أمنها القومي. واقع الحال أن مصر تمتلك، في هذه الآونة، وأمام هذا التحدّي، فرصة التأثير الكبير في وجهة الأحداث، نظراً إلى جوارها مع قطاع غزّة، ولما تتوفر عليه من ثقل عسكري وبشري واستراتيجي، وللعلاقات الوثيقة التي تربطها بأميركا، كما بالصين وروسيا. وبعدما بذلت، وما زالت، جهوداً كبيرة للتوصل إلى هدنة يُفترض أن تهيّئ لوقف إطلاق نار دائم، سوف يظلّ التحدّي قائماً، إذ يسعى نتياهو ووزيره يوآف غالانت إلى ما يسمّيانه نصراً مطلقاً. وبالقياس إلى ما حقّقاه، فإن نصر هذين الشخصين ينعقد حول تدمير تام لقطاع غزّة وتحويله، من شماله إلى جنوبه، إلى أنقاض. وليس هذا بالشأن العادي في جوار المحروسة وعلى تخومها الشمالية الشرقية، فالتبشير بمزيد من الخراب والدمار سوف ينشر بيئة من الخراب السياسي والإنساني، حتى أن نتنياهو، منتشياً بما اقترفه من جرائم ضد الإنسانية، لا يكتم رغبته بالتسلط على قطاع غزّة والتسبّب بمزيدٍ من الكوارث في السنوات العشر المقبلة.

وبهذا، سوف تشكّل هدنةٌ غير قصيرة، إذا تحقّقت، محطّة قصيرة أمام أكثر من مليوني إنسان لالتقاط الأنفاس، غير أنها لن تضع حداً للمخاطر اللاحقة، وفي مقدّمها خطر اجتياح رفح، واستهداف معسكرات الخيام التي نصبتها مصر في رفح وخانيونس، وإحداث واقع أمنيٍّ متفجّر على الحدود مع مصر، وهو ما تملك مصر التعامل معه بنجاعة بإطلاق تحذيراتٍ صريحةٍ لتل أبيب أن رفح خط أحمر، استباقاً لأي جنون دموي وأيّ خطط توسّعية إسرائيلية. ويقيناً أن موقفاً مصرياً كهذا سوف يلقى أوسع دعم عربي وإسلامي ودولي، وسوف يتيح لمصر أن تترجم ثقلها الاستراتيجي في الميدان السياسي والدبلوماسي، وأن تكون لها كلمتها في وجهة الأحداث ومسار التطوّرات على الأرض، فالسلام يحتاج إرادة سياسية صلبة تحمل الطرف الآخر على الالتزام بمقتضيات السلام، مع التأكيد على أن مصير قطاع غزّة شأن فلسطيني ومصري وعربي، وليس شاناً لمجلس الحرب الإسرائيلي، ولا لحكومة المستوطنين المتطرّفين.