قبل أن يزحف النسيان:
العم صلاح وتلفزيونه اللعين (2/2)

قبل أن يزحف النسيان:
العم صلاح وتلفزيونه اللعين (2/2)

29 أكتوبر 2015

واقع العشوائيات يفوق ما يتصوره كثير من الناس

+ الخط -


(8)

"طيب نستأذن إحنا سعادتك"، قالها العم صلاح لوكيل النيابة الذي أشرق وجهه بالابتسام، للمرة الأولى منذ دخلنا مكتبه، ثم رد قائلا: "لا.. تمشي فين يا باشا.. هو إحنا بنتشرف بسعادتك كل يوم.. إحنا خلصنا الشغل الرسمي.. ولازم نشرب سوا فنجان قهوة".

استغربت أن محاولة العم صلاح في التملص جاءت تقليدية، ربما لأنه كان مندهشاً من تغير "أتييتيود" وكيل النيابة بهذه السرعة. في العادة، يقول العم صلاح، بطريقة تسوق الهبل على الشيطنة، أشياء من نوعية "معلهش أصل خالتي كتب كتابها دلوقتي ولازم أحضر أحسن جوزها يزعل"، يفهم منا محدثه أنه ليس مستعداً للبقاء معه فترة أطول، لكن المقام لم يكن مهيئاً لقول أشياء كهذه، ووكيل النيابة أصلاً قرر أن لا يكتفي بمجاملات السؤال عن المشاريب، ليقول لعم صلاح، بلهجة تصور أنها ستثير فضوله: "أنا بقى هاضايفك على حاجة هتعجبك.. حاجة مش هتشوفها في أي مكان تاني.. مش إنتو بقى بتعملوا مسلسلات عن مشاكل المجتمع.. أنا بقى هاوريك قضية تعرّفك إن اللي بتجيبوه في المسلسلات ده ولا حاجة جنب اللي بيحصل في الواقع".

لم تكن لهجة وكيل النيابة مثيرة فقط للفضول الإنساني والدرامي، بل كانت مليئة بنوع غامض من التحدّي، كان يدرك أن عم صلاح سيرغب في مواجهته، وقد كان، فالعم صلاح وضع ابتسامة عريضة على وجهه، وأخذ يقول عبارات من نوعية "وماله يا مولانا.. منكم نستفيد.. إحنا يسعدنا نعرف مجتمعنا أكتر"، وأظنه لو كان سيعرف كُنه القضية التي قرّر وكيل النيابة أن "يضايفنا" عليها، لقال له بذات الابتسامة العريضة: "لا معلهش ده أصلا مش دوري كممثل، ممكن أبعت لسيادتك حد من زملائنا المؤلفين، إنما أنا لازم أمشي حالاً عشان خالتي كتب كتابها كمان شوية".

(9)

بعد ثوانٍ أعقبت ضغط وكيل النيابة للجرس الموصل بمكتبه، دخل عسكري المراسلة إلى المكتب مؤدياً تحية عسكرية، كان يبدو أنه تعود عليها، ووكيل النيابة بلهجة لا تخفي رزالة تهكمها: "هات لي العائلة الكريمة اللي كنت باحقق معاها النهارده الصبح". وحين نظر العسكري إلى عم صلاح، كأنه ينبه الباشا إلى أنه ما زال موجوداً في المكان، كان نصيبه زغرة مدغمة بشخطة "اتحرك يا ابني"، طار على إثرهما مغلقاً باب المكتب، ليتركنا في صمت مطبق، ونحن نتبادل النظرات، مخمنين طبيعة العائلة الكريمة التي سنمثل في حضرتها رغماً عنّا. فيما بعد، قال لي العم صلاح إنه توقع دخول عائلة من أب وأم وأربعة أطفال يعملون سوياً في السرقات، بحكم كوننا في مكتب وكيل نيابة يحقق في قضايا السرقات، أما أنا ولأنني مولع بافتراض الأسوأ دائماً، فقد توقعت دخول عائلة يقوم فيها الأب بتسريح زوجته وابنتيه في الدعارة الصيفية. ولذلك، ارتسمت على شفتي ابتسامة ظفر قصيرة العمر، حين دخل إلى المكتب، رجل بدا في الخمسين، وامرأة أربعينية، وبصحبتهما فتاتان إحداهما تبدو عشرينية، والأخرى تبدو أصغر بكثير، لكنها كانت تحمل على كتفها رضيعاً، كان يغط في نوم عميق.

كان وكيل النيابة قبل دخول تلك "العائلة"، قد نقل موقع الكرسي الذي كان يجلس عليه العم صلاح، ليصير إلى جواره مباشرة، بحيث يمكن له تفحص الداخلين على المكتب، في حين ظللت جالساً على كرسيّ الذي يقع على يمين الباب، ما كان يجعلني أقرب إلى العائلة، بحيث أبدو لمن يدخل المكتب فجأة، كأنني واحد من أفرادها، لكنه يجلس فقط على كرسي، في حين يقفون، حاولت في حركةٍ تلقائيةٍ تحريك الكرسي، لأبتعد به عنهم قليلا، إلا أن زغرةً من وكيل النيابة ألزمتني مكاني، لأكتفي بتفحص وجوه الداخلين التي كانت جميعها شاحبة وذاهلة، كأن أصحابها تعاطوا للتو مخدراً ثقيلا، يسمح لهم بالكاد بفتح أعينهم للنظر إلى وجوه الموجودين في المكان، وأغلب نظراتهم كانت بالطبع من نصيب عم صلاح الجالس إلى جوار وكيل النيابة، وهي نظرات كانت تنم عن شكوك ساورتهم لحظات في أنهم رأوه من قبل، لكن شكوكهم تبددت، حين قال لهم وكيل النيابة، وهو يشير إلى العم صلاح: "البيه جاي من وزارة العدل في مصر عشان يسمع تفاصيل قضيتكو، ونحاول نشوف لها حل، ما يبقاش فيه فضايح ولا شوشرة"، قبل أن يتحدث بلهجة تحذيرية عن ثمن الفضائح الذي سيدفعه أطفال العائلة الأصغر سناً، والذين لعلهم الآن يسألون عن سر اختفاء أبيهم وأمهم كل هذه المدة، ليتضح لنا مما قاله أن الموجودين في المكتب، ليسوا كل أفراد تلك العائلة، وأن للموضوع جذوراً أكثر تعقيدا، بشكل قلل من نسبة فضولنا، وزاد كثيراً من نسبة حذرنا، خصوصاً وأن وكيل النيابة لم تكن تفارق وجهه، طوال الوقت، ابتسامة غتيتة مُقبضة.

(10)

"خليك إنت في الآخر.. أنا عايز أسمع الأم الأول.. احكي، يا ستي، إيه اللي حصل بالضبط". قالها وكيل النيابة مُسكتاً الرجل الذي كشفت عبارة وكيل النيابة ضِمناً أنه الأب، أو ربما كان زوج الأم، ربما لأنني تمنيت بذلك أخف الضرّرين، وهو أن نكون بصدد قضية زنا محارم، مألوفة لدى من عملوا مثل حالاتي في تحرير صفحات الحوادث، لكن الأم لم تحقق رغبتي، بعد أن بدأت تحكي حكاية العائلة، بلهجةٍ لم تتخلص تماماً من لكنةٍ ريفيةٍ ما، وهي تنظر إلى الحائط الذي يعلو رأس وكيل النيابة، كأنها تقرأ سطوراً تتحرّك على الحائط ببطء: "ما فيش يا باشا.. زي ما قلت لسيادتك قبل كده.. عيالي حظهم خرا.. أبوهم غير كل الأبهات اللي في الدنيا.. راجل كافر إبن وسخة.. بقى له سنين بينام مع الكبيرة دي.. لغاية ما جاب منها العيل اللي إنت سعادتك شايفه.. ونام بعدها مع الوسطانية دي.. ودلوقتي حبلى في تلات أشهر.. والحمد لله إن الصغيرة نفدت منه.. وأني مش عارفة نعمل إيه يا باشا.. أني باقول تعدموه وتعدموني، وتقتلوا العيل ده والعيل التاني اللي في بطن البت دي، وتريحونا كلنا، عشان أني خلاص تعبت يا باشا وما عدتش قادرة خلاص".

حين أخذت السيدة تلقي، بمنتهى الهدوء، بتلك العبارات الكارثية التي وقعت على رؤوسنا كالحمم الملتهبة، كان وكيل النيابة قد التفت، بكامل جسده، إلى حيث يجلس العم صلاح، مصوباً نظره عليه وهو يبتسم، كأنه يستمتع برؤية قناع عم صلاح الهادئ الرزين، وهو يتمزق، فيكتسي وجهه بذهول شاحب، وهو يوزع نظراته الزائغة بين الأم والبنتين والرضيع والأب، قبل أن ينظر إليّ ربما ليتأكد من أننا نعيش سوياً نفس الكابوس، ليراني أنظر إليه مستنجداً ومناشداً، بأن يستخدم كل ما لديه من نفوذ معنوي لإيقاف ما يحدث، والسماح لنا بالخروج فوراً من المكتب، قبل أن يداهم ارتباكنا صوت وكيل النيابة، وهو يسأل البنت الكبرى: "قولي للبيه.. الكلام ده حصل، يا عبير، ولا أمك بتتبلى على أبوكي؟"، هزت البنت الكبرى رأسها موافقة، وقد ارتسمت على وجهها علامات تحدٍ، مصحوبة بابتسامة باهتة لم يطل غموضها كثيراً، فقد تطوع وكيل النيابة لتفسيرها قائلاً بذات الابتسامته الصفراء المقبضة: "أصل عبير هي اللي بلغت عن أبوها.. لما عرفت إنه بينام مع أختها.. زي ما تقول كده حسّت إنها مش مالية عينه.. مش خوف على أختها يعني.. لأ دي غيرة نسوان.. آه والله زي ما باقولك كده.. مش صح كده يا عبير؟". وعبير لم ترد هذه المرة، ولم تهز حتى رأسها، بل صوّبت نظرات عدائية إلى أختها التي أذهلني أن أعرف من وصلة الكلام التالية التي أدلى بها وكيل النيابة، أنها في الخامسة عشرة من عمرها، مع أن تكوينها الضئيل كان يوحي بأنها أصغر بسنتين أو ثلاثة.

كانت قوى العم صلاح قد خارت، فلم يعد قادراً على التحمل، وحين ظهر عليه أنه يغالب رغبة قوية في التقيؤ، مدّ إليه وكيل النيابة منديلا ورقيا وكوب الماء الموجود إلى جواره، وهو يقول له بذات الابتسامة الغتيتة: "مش قلت لك يا باشا.. اللي بتعرضوه في المسلسلات ده ما يجيش حاجة جنب اللي بنشوفه كل يوم"، والعم صلاح وجد في تلك العبارة فرصة سانحة، لقطع تدفق العفن الذي وجدنا أنفسنا غارقين فيه فجأة، فنهض من كرسيه، قائلا لوكيل النيابة، وهو ينتزع إبتسامة باهتة: "الله يقويك يا باشا.. إحنا لازم نمشي عشان نسافر ونسيبك لشغلك"، ليفاجئني أن وكيل النيابة هب من كرسيه، وأمسك بيده بشكل غريب، خشيت لحظات أن يجعل العم صلاح يقوم بدفعه أو ما هو أكثر من ذلك، فندخل في دوامة تفضي إلى أخبار من نوعية "صلاح السعدني يعتدي على وكيل نيابة"، وغيرها من الأخبار التي تحب الصحف تداولها، خصوصاً في تلك الأيام التي كانت مسكونة بخواء سياسي مرعب، كان الناس يبحثون في ظله بلهفة عن أي فضائح ممكنة، ولم تكن الدولة تبخل عليهم بها، مفبركة أو حقيقية، لإرضاء عطشهم إلى الشعور بأن هناك شيئاً ما يحدث في البلد.

(11)

"رايح فين بس يا فنان.. دي أمانة إنك تشوف الواقع بنفسك، عشان لازم تعالج المشكلة دي في عمل فني ينبه الشعب لخطورة اللي بيحصل في العشوائيات"، قال وكيل النيابة ذلك بلهجة جادة هذه المرّة، بعد أن ظهر له ربما أن استمرار ابتسامته الصفراء المستفزة، سيدفع العم صلاح للإصرار على الخروج. للحظات شعرت أن كل ما قابلنا به من غتاتة، كان مبعثها وطأة ما شهده خلال تحقيقه مع تلك العائلة، وهو شعور أدركت أنه ساور العم صلاح، حين وجدته يجلس على كرسيه، وهو يحاول أن يهدأ، ليقول له وكيل النيابة بلهجته الجادة الطارئة "ما تزعلش مني، يا أستاذ صلاح.. بس تخيل اللي إنت ما قدرتش تستحمل تسمعه الكام دقيقة دول.. أنا شغال فيه بقى لي كام يوم.. طب والله أنا ما صدقت إني ألاقي حد يساعدني، ويشيله عني، ولو حتى بالسمع بدل ما أنا لايص فيه لوحدي". ولا أدري لماذا خطفت حينها نظرة إلى كرسي كاتب النيابة، لأكتشف أنني لم آخذ بالي من خلوه، وأن الكاتب الحويط غادر الغرفة بهدوء، فور دخول العائلة إليها، لأنه بالتأكيد لم يطق فكرة الاستماع إلى تلك الفظائع مجددا.

متحشرجاً جاء صوت العم صلاح، وهو يقول لوكيل النيابة: "أنا مقدّر اللي سيادتك بتقوله. لكن، أنا فعلا مش قادر أتصور اللي أنا باسمعه ده، وأعتقد إني لو كملت ممكن أقوم أخنق الحيوان اللي واقف ده وما أسيبوش إلا وهو ميت"، وكأنني حين أشار العم صلاح بيده إلى حيث يقف الأب، كنت أنتظر أحداً لكي يشجعني على قرار شديد الصعوبة، هو أن أنظر مجرد النظر إلى وجهه، الذي لا أظن أنني رأيت حتى الآن وجهاً أكثر بشاعة منه، رغم أن ملامحه بدت لي عادية للغاية، حين دخل في البدء.

كان الأب يرتدي جلباباً شديد الاتساخ، ويقف مطأطئا رأسه، وناظراً إلى نقطة غير محددة في بلاط المكتب، من دون أن يتحرّك رأسه إلا للحظات، حين زغده عسكري المراسلة لكي يلبي وكيل النيابة ببدء الحديث، ليغمغم قائلاً: "هأقول إيه بس، يا باشا، أمر الله ونفذ"، ويعود إلى صمته، مطأطئاً رأسه من جديد، ليسدد عسكري المراسلة إلى قفاه، أكثر من عشرين صفعة في زمن قياسي، وأظنه لم يكن ليتوقف عن صفعه بكل ما في الدنيا من غل، لولا أن وكيل النيابة شخط فيه، لكي يتوقف عن الصفع، مغمغماً بعبارة من قبيل "ما يصحش اللي إنت بتعمله ده"، كان واضحاً أنها مجرد طق حنك، لتسجيل موقف قانوني في حضور غرباء، حتى لو كان متأكداً أنهم من فرط ما بهم من قرف وغل، راغبون في مساعدة عسكري المراسلة في مهمته التي بدا، من ملامح الأب الميتة، أنها عبثية ومحكوم عليها بالفشل، لأن هذا الجسد المتخشب لن تفلح كل آلات التعذيب الجهنمية في أن تنتزع منه آهة ألم، فضلا عن عبارة ندم على ما اقترف في حق الجثث الحية التي كانت تقف إلى جواره، وقد أرسلت كل صاحبة جثة نظراتها الخاوية في بقعة من فضاء الغرفة، من دون أن يبدو أن هناك ما يشغل أياً منهن، سوى أمل الوصول إلى نهاية سريعة لما يشهدونه الآن، لعل ذلك يكون بداية لأي نهاية، تحسم عذابهن الأزلي.

(12)

فجأةً، تبدد الصمت المطبق على الغرفة، حين انفجر الرضيع باكياً، ووكيل النيابة قال، فيما بعد، إن البنت الوسطى هي حتما من قرصت الرضيع، لكي يستيقظ باكياً، فينهي بواخة تلك المواجهة، وأنا وجدت رأيه وجيها، خاصة أن كل أفراد الأسرة اكتشفوا، بعد ما دار بين وكيل النيابة والعم صلاح، أن الضيف القادم لا علاقة له بوزارة العدل، وأن تلك المواجهة لم تكن إلا فرجة منصوبة لضيوف وكيل النيابة. ولذلك، كان لا بد أن تنتهي فورا.

الغريب أن بكاء الرضيع المتعالي والحاد جلب إلى العيون التي ظننتها ميتة حياة مفاجئة، فقد انهارت الأم فجأة في نشيج حاد، وتبعتها بعد قليل الابنة الكبرى التي اختفت ملامحها المتحدية، وتبدلت إلى بؤسٍ لا سبيل إلى وصفه. أما أختها التي لم نعرف لها اسماً سوى "الوسطانية"، فقد ظلت متماسكةً، ومكتفية بهز الرضيع بعصبية، قبل أن تفقد تماسكها، وتبكي هي الأخرى بحرقة، بعد أن خلعت أمها "البُلغة" التي كانت ترتديها، وأخذت تنهال على نفسها بالضرب بقوة، تعامل معها وكيل النيابة وعسكري المراسلة ببرود، كأنهم يعتبرونها إجراءً تطهيرياً لا يصح إثناء الأم عنه. في حين ارتسمت على وجه الأب اللعين ابتسامة لم أر أغرب منها في حياتي، قبل أن يقول بغلظة: "ما تبس بقى.. ما تبسّ بقى"، لتصيبنا مداخلته المفاجئة والقصيرة بحالة من الذهول، بمن فينا عسكري المراسلة الذي نظر إلى وكيل النيابة حائراً، كأنه كان ينتظر منه مجرد هزة رأس، ليسمح له بأن يضرب ذلك الكائن اللعين على قفاه حتى الموت، ويبدو أن وكيل النيابة لم يكن سيمانع، لولا أنه سمع فجأة صوت العم صلاح وهو يجهش ببكاء مرير، فشل طويلا في كتمه، لتعلو مع بكائه أصوات بكاء الأم وابنتيها، ويظهر حرج شديد على وكيل النيابة الذي حاول إظهار تعاطفه بمد علبة المناديل وكوب الماء من جديد، في حين ظللت أنظر إلى العم صلاح بملامح جامدة، وأنا أحسده من كل قلبي، لأنه تمكّن من أن يجد دموعاً في تلك اللحظة التي لم أشهد أحقر منها في حياتي، ولا أذكر أنني نجحت أبداً في البكاء، حين أتذكرها، وأنا كثيراً ما أتذكرها، ففي كل مرة، يتملكني شعور خانق مُمضّ، تبدو الدموع معه وبعده عسيرة المنال.  

 (13)

أشار وكيل النيابة إلى عسكري المراسلة بأن يخرج العائلة من المكتب فوراً، ليقوم العسكري سريعاً بنزع البلغة من يد الأم التي لم تكن قد كفت للحظة عن ضرب نفسها بها، ويرميها على الأرض، لتضع الأم قدمها فيها، وهي تزحف خارجة خلف الأب الذي أخذ يسير في المقدمة مطأطئ الرأس، وقد صدّر قفاه للعسكري الذي انهال عليه فجأة بصفعةٍ مدوية، نظر بعدها إلى وكيل النيابة بنظرة اعتذار، مفادها بأن تلك الصفعة كانت لازمة له، لكي يمتلك قوة معنوية، تساعدها على تحريك هذه الجثث نحو مدفنها من جديد.

فجأةً كفت البنت الكبرى عن البكاء، كأنها لم تكن تبكي من قبل، وخرجت وهي توزع علينا نظراتها المتحدية التي استعادتها فجأة، في حين استمرت أختها في السير باكية، وهي تواصل هدهدة الرضيع الذي عرفنا، فيما بعد، من وكيل النيابة، أنها تتطوع دائماً لحمله، لأن أختها الكبرى ترفض لمسه، وكذلك ترفض أمها الاقتراب منها، فهي، كما قالت لوكيل النيابة، تشعر أن حمايته مسؤوليتها الشخصية، خصوصاً أن الاثنتين، كما أقسمت مراراً، حاولتا قتله، كما حاولتا إسقاطها حين علمتا بحملها، بل إنها أعربت لوكيل النيابة عن استعدادها لتقبل عقوبة الإعدام التي اقترحتها الأم، فقط لو تعهد لها وكيل النيابة بأن أخاها الرضيع الذي أنجبته أختها من أبيها، وأخاها الذي لا يزال في بطنها، سيتم إيداعهما سوياً في دار أيتام يلقيان فيها حظا أفضل، من الذي لقيته، هي وإخوتها.

بعد أن خرجت العائلة من المكتب، تحدث وكيل النيابة عن تفاصيل كثيرة، كانت لازمة لإكمال صورة ذلك المشهد اللعين، أهمها أن تلك العائلة تسكن في منطقة عشوائية مجهولة لكثيرين، تقع بين المعمورة وأبو قير، وأن العائلة المكونة من سبعة أفراد تسكن في شقة صغيرة من غرفتين صغيرتين، وتشارك ثلاث أسر أخرى في دورة مياه، وأن الأب ضبط ابنته الكبرى "متلبسة بالتنزه مع ابن الجيران" قريباً من مشارف المعمورة، فمنعها هي وأختها من الخروج من المنزل بتاتاً، لتُحرم الاثنتان من إكمال تعليمهما الذي كانت الأم تصر عليه، لعلهما تحصلان على مستقبل أفضل من خدمة البيوت التي قطمت وسطها.

كانت البنت الكبرى في بدايات ممارسة أبيها الجنس معها، تظن أنه يؤدبها على خروجها مع ابن الجيران، خصوصاً أنه كان يبدأ عادة بضربها وجذبها من شعرها، وقرصها في مناطق متفرقة من جسدها بغل شديد، وأنها لم تكن تفهم في البدء، لماذا يضرب الأب أمها، حين كانت تبكي عقب فعل الأب ما كان يفعله، لكنها حين سألت جارة لها أكبر منها سناً بقليل، شرحت لها ما يفعله الأب، ونصحتها بالصمت المطبق، لأن أحدا لن يصدقها إن اشتكت، وأنها "ستخرب على نفسها" لو تحدثت، فلن يتقدم للزواج منها أحد في المستقبل، لتظل تحت قبضة الأب الحيوان إلى الأبد، وهو ما وافقت عليه الأم بشدة، مكتفية بالشكوى إلى الله، ومحاولة إيقاف الأب عن الاستمرار في محاولاته، مهما كلفها ذلك من ضرب واعتداءات، وحين وقعت الطامة، وتم اكتشاف حمل البنت، تواطأ الجميع لحبك تمثيلية أن الأم حامل، قائلين للجيران إنها ستذهب لكي تلد في البلد، وستضطر لترك أبنائها الأصغر سناً مع أبيهم وأختهم الوسطى.

مع اقتراب الحمل، ذهبت الأم مع البنت الكبرى، للإقامة في غرفة في أحد شوارع منطقة (السيوف)، استأجرها الأب لكي تلد البنت فيها، وسط تعاطف من أهل الشارع الذين قالت لهم الأم إن زوج ابنتها مسافر للعمل في ليبيا، ولم يكن أحد يتوقع أن علاقة الأب بالبنت الوسطى ستبدأ في تلك الفترة، بعد أن خلت له بها الشقة التي كان يعود إليها مخموراً ومخدراً كل ليلة، كما تعود بعد أن ينهي عمله في الفلاحة، في أرضٍ زراعية قريبة يمتلكها أحد بلدياته، ملقياً، خلال دفاعه المتبجح عن نفسه، باللوم على زوجته التي أهملت نفسها، فلم تعد "تملا عينه"، ومنهياً وصلة ذلك الدفاع الكريه في كل مرة، بلعن خلفة البنات التي لا تجلب سوى العار والفقر.

(14)  

أنهى وكيل النيابة حكاية ذلك الكابوس اللعين، ليسأل العم صلاح، بتودد حقيقي وحيرة مريرة، عما يقترح عليه فعله في قضية كهذه، لكن قدرة العم صلاح على التماسك كانت قد انتهت تماماً، فنظر إلى وكيل النيابة برجاء حقيقي، قائلا له بصوت تمكّن منه الأسى والإجهاد: "أرجوك، يا فندم، لو سمحت ممكن نستأذن فورا.. بعد إذن حضرتك"، ووكيل النيابة أدرك ما فيها هذه المرة، فلم يكرر سؤاله أو حتى طلبه بالبقاء قليلا، ولم ينطق بما هو أكثر من: "شرّفتنا يا أستاذ صلاح.. ياريت ما تزعلش مني.. بس أنا كنت حاسس إني هاموت لو ما حدش غيري شاف اللي أنا شفته"، والعم صلاح هزّ رأسه، من دون أن يجد كلماتٍ تقال، ومد يده ليصافحه، وخرج مسرعاً من الغرفة، وأنا في إثره، ولا ندري كيف وجدنا طريقنا إلى المكان الذي أوقفنا فيه السيارة، ولا كيف سارت بنا إلى خارج الإسكندرية، أو وصلت بنا إلى القاهرة، من دون أن ينطق أحدنا بكلمة.

بمجرد وصولنا إلى ميدان لبنان، طلبت من العم صلاح أن ينزلني فوراً، على عكس عادتنا في الذهاب سوية إلى منزله، وبعدها مضى وقت طويل، طويل جداً، قبل أن نجرؤ على تذكّر ما جرى، وعلى حكايته لأصدقائنا، ربما لكي نؤكد لأنفسنا أننا شهدناه فعلاً. ثم مضى وقت أطول، حتى جاء علينا يوم، استعدنا فيه ما حدث، حين مرت أمامنا سيرة العشوائيات في برنامج تلفزيوني ما، لأتذكّر أنني لم أسأل عم صلاح منذ ذلك الوقت، عن مصير ذلك التلفزيون اللعين، الذي أدخلنا في تلك التجربة، وحين قال لي العم صلاح، أنه لم ولن يسأل عنه ثانية، لم أستغرب موقفه أبداً، وللحظات اكتنفنا صمت حزين، قبل أن يسألني: "تفتكر العيل اللي كان على كتف البنت راح فين دلوقتي؟". وبالطبع، لم أكن غبياً، لأتخيل أنه يتوقع مني إجابة من أي نوع.     

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.