الحرب على غزة والتحرش بحماس

الحرب على غزة والتحرش بحماس

10 اغسطس 2014

مسيرة في رام الله دعماً لخيار المقاومة (8 أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -


منذ دفعت الثورات العربية التي اندلعت في 2010 الحركات الإسلامية إلى واجهة الأحداث، وهي التي استفادت منها في محيط إقليمي معاد لها، وقوى دولية، إما مناهضة لها أو متوجسة منها، حتى بدأ التحرش بحركة حماس بشكل غير مسبوق، وخلطها مع ما صار يعرف بالإسلام السياسي، وهو لفظ عام، يتم عن عمد تعويمه لمحو الفروق القائمة بين مكونات غير متجانسة، تمتح من متون نظرية، متباينة أحياناً، فضلاً عن منابتها القطرية المختلفة والمتعددة. في هذا الكيس الفضفاض، تم حشر حماس في جوار غريب وماكر مع داعش والقاعدة وجبهة النصرة والجماعة الليبية المقاتلة، وغيرها من تشكيلات إرهابية، لا يعرف عديدون منطق توالدها ولا اندثارها. ومع ذلك، هناك أكثر من دليل على ازدهار شركات عابرة للقارات، تشتغل على إنشاء هذه المفارخ ورعايتها.

لم تقبل حركات يسارية عربية عديدة، وخصوصاً منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، سنة 1987 ظهور حماس، وقد تزامن مع تراجع لافت للفصائل الفلسطينية، ذات الخلفية اليسارية والقومية. لسنا بصدد تحليل أسباب ذلك التزامن، وقد نعود، في مناسبات أخرى إليه. ولكن، علينا أن نشير إلى أن الجبهتين، الشعبية والديموقراطية، أبرز تلك الحركات التي عرفت تراجعاً في أدائها الثوري وانتشارها التنظيمي وإشعاعها الرمزي. كان ذلك مرتبطاً بأزمات هيكلية لليسار العربي، في علاقة بمرحلة التحرر القومي والقوى الصديقة التي تسند ذلك، مجسمة في المعسكر الشرقي، المترنح آنذاك.

كان بعضٌ ممن لم يستسغ ظهور حركات دينية، ذات منحى ثوري، قد راهن، حتى تنتهي الحركة "لرجعيتها البنيوية" طابوراً خامساً للكيان الصهيوني. وتمنى آخرون أن تنتهي مستكينة ذليلة، في أول الاختبارات، في حين كان بعضهم لا يرى فيها إلا صنيعة لإسرائيل. الحقد الإيديولوجي والعمى الفكري يمنع عن أشد المفكرين نباهة وذكاء منافذ التنسيب والموضوعية. عيب الايديولوجيا، مع ثنائنا على فضائلها العديدة، أنها بقدر ما تمنح النوابغ أشد الحدوسات بلاغةً، فهي تحرمهم من التريث والرصانة، في ما ينتهون إليه من خلاصات نهائية.

لأول مرة، تلتقي أكثر الأنظمة تنكراً للقضايا العربية، وتطلعات شعوبها في العدالة والحرية، مع أشد الحركات اليسارية الراديكالية والليبرالية في معاداة حماس، وهي التي تفادت، بذكاء سياسي، خوض صراعات ثانوية مدمرة، فابتكرت، في سبيل ذلك، أشكالاً مضنية من الحياد وعدم التدخل في شؤون حتى أشد الأنظمة عداءً لها، وصمتت عما ترتكبه تلك الأنظمة بالذات، في حق بعض الحركات التي تقاسمها أرضيتها الفكرية العامة. سيجت حماس حقل تدخلها بخطوط حمراء، رسمت بحذر كبير، وقد استدعت، في ذلك، ما تسمح به الظروف الحالية، ولكن واقعيتها تجاه محيطها العربي والإسلامي لم يصادر منها حقها المبدئي في المقاومة، وكانت تجرب أكثر أشكالها مردودية سياسية، ونأت بنفسها، مثلاً، في السنوات الأخيرة، عن القيام بعمليات استشهادية، بعدما "استهلكتها" مجموعات إرهابية ضد مدنيين أبرياء، كما تجنبت بألم بالغ استهداف المستوطنين باعتبارهم "مدنيين". وما فضيحة سخف ادعاء خطف المستوطنين الثلاثة إلا دليل عما وصلت إليه صناعة المبررات من لؤم.

خاضت حماس مع باقي الفصائل الفلسطينية معارك عديدة، وفجرت مع شركاء النضال الوطني أكثر من انتفاضة، ولم تتورط، في ما نعلم، في اقتتال داخلي، أو قامت بأعمال عدائية تجاه حتى أشد الأنظمة العربية تنكيلاً بالفلسطينيين. كان ذلك ضمن قراءةٍ، استفادت من أخطاء من سبقها من حركات النضال الوطني، فلم تتورط في أعمال تسيء إليها، أو إلى القضية الفلسطينية عامة. ربما تشهد حماس، مثلما تشهد جميع الحركات السياسية، بعض الظواهر المرضية، على غرار صراع المواقع والولاءات والأجيال وسوء التقدير، ولكن، ظل ذلك محدوداً ومتحكماً فيه، إلى حد الآن.

أخطأت حماس في مواضع عدة، فالخطأ وارد في السياسة الهادئة، فما بالك وأنت تقاوم وعقلك منشطر بين زناد ولقمة عيش شعب محاصر.

في سياسة محاور عربية متعددة، لا يمكن أن تذهب حماس، وأي حركة فلسطينية أخرى، بعيداً في تحقيق كل ما تطمح إليه، وأن تتطابق ممارساتها على أرض الواقع مع مثلها. الثورة السورية التي تكاد أن تتحول إلى حرب أهلية عبثية وانقلاب العسكر في مصر وصعود داعش في العراق، ووضعت هذه الحركة في اختبار عسير لمبادئها. ولكن، مهما كان خطأ الاجتهاد في الانضمام إلى محور دون آخر، وتغيير الحلفاء، لم تتورط حماس في أعمال عدائية تجاه شقائقها من الفصائل الفلسطينية الأخرى، كما لم تنجر إلى تغذية الخلافات القطرية، وهي التي على أشدها حالياً في المنطقة. بدأت مساعي النظر في تصنيف حماس حركة إرهابية من أنظمةٍ عربية شقيقة، ومع ذلك، التزمت بكثير من الانضباط والحكمة، وهي تواجه حالياً، حتى تقبل في محيطها بجملة من الشروط المذلة، في وقت تصر إسرائيل على نزع سلاحها المقاوم، وهي شروطٌ بدأت السلطة الفلسطينية تعترف بإجحافها وبطشها.

إن من يتمنى أن تكون حماس الفصيل الوحيد المقاوم، حتى يستفرد بالنضال، ويصبح العنوان الأوحد، كما يدّعي بعضهم، بمن فيهم قلة من أبناء حماس، يخطئ، ذلك أن وحدة النضال الفلسطيني تقتضي أن تستعيد كل التشكيلات الفلسطينية عنفوانها. ولذلك، كانت مساعي الوحدة ووضع حد للانقسام من أسباب مباشرة لهذا العدوان. هل علينا أن ننسى التهديد الصريح لنتنياهو وقوى إقليمية، منذ أشهر، حين طلبوا من الرئيس محمود عباس أن يختار بين حماس والسلام.

من يحاكم حماس باعتبارها حزباً في نظام جمهوري مدني ديموقراطي يخطئ عن عمد، وينساق بشكل تآمري إلى شيطنة المقاومة والتحرش بها، وهو، بذلك، يكون شريكاً في العدوان على غزة. إنها حركة مقاومة مسلحة قبل كل شيء. لا شك في أن النقد مطلوب، حتى لا نسقط في إضفاء قداسة على المناضلين مضللة أحياناً. ولكن، علينا أن نختار شبكة المعايير الأمثل في مثل هذه الحالات: استمرار خوض المعركة مع العدو الإسرائيلي بشرف ونبل، حرمة الدم الفلسطيني، عدم التدخل في خلافات الجوار والصراعات القطرية واستعادة تعاطف دولي واسع، تم تبديده بما يرتكب باسم الإسلام زيفاً وبهتاناً من جرائم وحشية بشعة. شرفاء وأحرار العالم هم الذين سموا بالقضية الفلسطينية، حتى تدرك مرتبة إنسانية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.