سؤال النخب في تونس بشأن انقلاب قيس سعيّد

سؤال النخب في تونس بشأن انقلاب قيس سعيّد

16 فبراير 2022
+ الخط -

بعد سبعة أشهر على حركته، يمكن الجزم بأن الرئيس التونسي، قيس سعيّد ''نجح'' في تقسيم البلاد إلى معسكرين، يحدّد هوية كل منهما مدى انخراطه في مشروع ''البناء القاعدي التصحيحي للمسار". وفي المحصلة، تشكلت سردية رسمية نجحت في بناء ثنائية سياسية على قاعدة حليف أو عدو: حليف لسعيّد المهيمن على مفاصل الدولة والماسك كل الخيوط وكل السلطات، وجديدها السلطة القضائية، وفق تصور شعبوي هلامي طهوري، رافض، باسم '' الشعب يريد''، كل الكيانات الوسيطة من أحزاب ومنظمات اجتماعية ومجتمع مدني، تصوّر طهوري لمنظومة الحكم ومسؤولياته، يقوم على الشعب والزعيم المجسّد للإرادة الشعبية والمعبر عنها، والحال هذه، لأي دور لكل كيان وسيط. وفي المقابل، تقف على الجبهة الأخرى لهذا التصور الذي يمضي فيه سعيّد نخب منحها الشعب نفسه تفويضا لإدارة شؤونه ورسم رؤى وسياسات عمومية، ترعى قواعد العيش المشترك وتحميه، نخب لها قناعات ومرجعيات ترى ما قام به سعيد انقلابا على الدستور، وهتكا لانتقال ديمقراطي ولو شابه بعض العلل. هذه النخب استهدفها قيس سعيّد، وألصق بها عدة تهم، وقد أصبحت حاضرةً في خطابه المتواتر أنها كيانات تتآمر على الشعب صاحب السيادة، غير أن سعيّد، وإن نجح نسبيا في إرجاع هذه النخب الحزبية المسيّسة إلى داخل سياجات ومقرات أحزابها فاقدة حضورها في المشهد السياسي موجودة أحيانا في الشارع التونسي، وغائبة في الفضاء العام ووسائل الإعلام، قياسا بما كانت عليه قبل 25 يوليو/ تموز، فإنه لم ينجح في عزل بقية النخب الأكاديمية والثقافية والحقوقية التي حاول سعيّد تجنبها، لكنه ظل يتصارع معها، نخب مؤثرة وجاذبة، فتحت الفضاء العام لنقاشاتٍ وأسئلةٍ، من الصعب تجنبها أو غض الطرف عنها. تسأل هذه النخب الأكاديمية والحقوقية والثقافية التونسية اليوم: هل ما قام به سعيّد تصحيحا لمسار الثورة أم انقلاب على الدستور والشرعية؟ وما طبيعة النظام الذي هو بصدد إرسائه؟ (هل ما زلنا في إطار الديمقراطية المشوّهة بالشعبوية أم انزلقنا في نظام ديكتاتوري وجب تحديد ملامحه؟).

نخب مؤثرة وجاذبة، فتحت الفضاء العام لنقاشاتٍ وأسئلةٍ، من الصعب تجنبها أو غض الطرف عنها

يرى الأكاديمي حمادي الرديسي ''يجب أن تكون الإجابة من زوايا نظر العلوم السياسية وفلسفة القانون، وليس من وجهة نظر الفقه الدستوري". كما قدّم فريق من الباحثين الجادين عملين بحثيين ''الإغواء الشعبوي'' و''التحول المعرقل'' قدما تقييما جادا من زاوية أنتروبولوجية للعشرية برمتها في تونس، منذ قيام الثورة 2011 إلى 2020 بعيدا عن السردية الرسمية التي تروجها رئاسة الجمهورية. وتأسيسا على نتائج البحثين، وسؤال ما إذا كان ما قام به سعيّد تصحيحا للمسار أم انقلاب على الدستور، يرى رموز النخبة التونسية، المشهود لهم بالحياد والموضوعية، أن تصحيح المسار الذي يلوح به سعيّد كلام تبريري، ليس له مستند قانوني. وإذا كان الانقلاب لا يحتاج بالضرورة إلى إراقة الدماء واستعمال العنف، إلا أن مفهومه في المخيال الجمعي العام مرتبط بتدخل الجيش الذي ينقلب عادة على السلطة القائمة لإزاحة الماسكين بها، وهو ما لم يحدُث في تونس. لذلك ابتدعت هذه النخب السياسية مصطلح ''عمل قوة''، أي أن سعيّد استعمل القوة المادية لفرض إرادته وانتزاع ما سعى إليه ماسكا، في النهاية، كل السلطات، وناسفا أهم ميزات الديمقراطية، ونعني الفصل بينها. وترى هذه النخب أن مصطلح عامل القوة هذا يقابله في العلوم السياسية مصطلحٌ يشخّص ما حدث في تونس هو الانقلاب الذاتي، وهي ترجمة عربية للكلمة الإسبانية AUTOGOLPE، أو انقلاب دولة ذاتي، وقد وردت أولا بالإسبانية، لأن أميركا اللاتينية هي مخبر الانقلابات بكل أنواعها، ثم ترجمت إلى الإنجليزية بـ SELF-COUP وللفرنسية بـ AUTO-COUP D’ETAT.

يرى رموز النخبة التونسية، المشهود لهم بالموضوعية، أن تصحيح المسار الذي يلوح به سعيّد كلام تبريري

الجديد المفاجئ هنا أننا نجد تونس دخلت، منذ 25 يوليو/ تموز، في قائمة الانقلاب الذاتي في "ويكيبيديا" في نسختيها العربية والإنكليزية، وتبيّن النسخة العربية أن من ينقلب على ذاته على خلاف الانقلاب العسكري هو زعيم أو رئيس، يصل إلى دفّة الحكم بطريقة ديمقراطية، ثم يعلن حالة الاستثناء ويحل البرلمان، أو يعلق نشاطه، مستحوذا على كل الصلاحيات ومدجنا للمحاكم، ويحدّ من الحريات سانّا دستورا جديدا بعد ذلك، وتحدّد موسوعة العلوم السياسية المفهوم: ''يحدث انقلاب ذاتي عندما يتولى الحكم رئيس قائم عادة بمساعدة الجيش ويوقف عمل السلطة التشريعية والسلط الحاكمة الأخرى ليحكم بدون معارضة، وذلك يختلف عن انقلاب على الدولة الذي عادة ما يحدث بإسقاط الرئيس من طرف الجيش الذي يستولي على السلطة". وتؤكد مجمل الأدبيات حول تاريخ أميركا اللاتينية الحافل بالانقلابات الداخلية أن هذه الانقلابات حالة مؤقتة، تنتهي بنهاية المدة الرئاسية القانونية أو بأن تطرد المعارضة الرئيس أو بانقلاب عسكري.

جدل النخب التونسية، وإن ذهب بعيداً في حفر ما يمكن توصيفه لهذه الحالة، أو ما يمكن تحديده بمصطلحٍ ما تبعاً لسؤال هذه النخب ''هل هو انقلاب أم تصحيح للمسار الثوري؟''. وعلى الرغم من توسعها في رسم خريطة مصطلحاتٍ استقتها من مرجعيات سياسية مختلفة، مستندة إلى مقارنات ومقاربات بين ما حصل في تونس وفي دول أخرى، وخصوصا في أميركا اللاتينية، أرض الانقلابات بكل أنماطها، تذهب هذه النخب إلى أن سعيّد قد مضى في تأسيس ديكتاتوريةٍ لا أحد يعلم كيف سيكون مآلها وما تداعياتها على مستقبل البلاد، فهم يرون سعيّد دكتاتورا منتدبا، تجاوز ما أقرّه التفويض في انتخابات 2019 وما حدّده دستور 2014، وهو يحكم الآن بإخلال مبدأ الفصل بين السلطات، معتمداً، في مناسباتٍ عديدةٍ، على الرعب، بواسطة أجهزة الدولة ومؤسساتها.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي