لماذا يعزف التونسيون عن السياسة؟

لماذا يعزف التونسيون عن السياسة؟

25 اغسطس 2023

تونسيون يتسوّقون قرب السوق المركزي في العاصمة (11/5/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

هل بات الشأن السياسي مسألةً عابرةً في المخيال العام للإنسان التونسي العادي، أم أن التّخمة السياسية نفّرته عن هذا المجال، وأبعدته عن النقاشات المتعلقة بالسياسة والسياسيين والنخب وطروحاتهم وأهل الأحزاب السياسية ومواقفهم؟ وهل الفضاء الافتراضي لم يعد قادراً على لملمة الجراح والخيبات التي يعيش على وقْعها التونسي نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية وتدهور مقدرته الشرائية وضبابية المشهد في كل تجلياته وتفريعاته؟ هل التلفزيون أيضاً لم يعد فضاءً تُتاح فيه فرصة النقاش والحوار وطرح الرؤى والمقاربات؟ وهل الصحافة المكتوبة لم تستطع أن تتأقلم مع هذا النفور الذي أصبح يتّسم به الشارع التونسي وعزوفه عن السياسة وأهلها؟

لا يمكن أن تكون كل هذه التساؤلات مجرّد تخمينات وافتراضات، بل هي واقع أصبح يعيش على وقعه المجتمع التونسي بمختلف أطيافه وتركيباته، بل لعلنا نقول حتى بانتماءاته السياسية، نظراً إلى غياب الأحزاب أو تكاد من المشهد السياسي العام وعدم قدرتها على الاستجابة لمتطلبات الظرف ومقتضيات الواقع التونسي اليوم، ما الأسباب التي دعت إلى هذا العزوف، وهل هي مرحلة ظرفية؟ أم أنها خيارٌ لجأ إليه التونسي الذي بات منكبّاً على مشغل آخر، وهو توفير مستلزمات الحياة اليومية في ظل أزمة خبزٍ تظهر بين الفينة والأخرى وفقدان مواد غذائية، كالأرز والقهوة والسكر وغيرها، على الرغم من طمأناتٍ تصدرها الجهات الرسمية بأن هذه الموادّ تختفي من الأسواق نتيجة اللوبيات، وبفعل فاعل، وهو ما قد يطرح سؤالاً عن مدى استعداد التونسي لقبول ما يروّج عن هذه المسألة، وخصوصاً طوابير البحث عن الخبز وإغلاق مخابز كثيرة، وانعدام المواد الأساسية لصناعة رغيف الخبز.

ولطمأنة الرأي العام بشأن هذه الأزمة، تحاول وسائل الإعلام التركيز على الحملات الاقتصادية التي تقوم بها الجهات الأمنية وفرق مراقبة الأسعار، التي تفضي في حالات عديدة إلى الكشف عن مخازن لتجميع مادة الدقيق وغيرها، فتنطلق كاميرا التلفزيون الرسمي وصفحات فيسبوك، وأخبار الإذاعات للحديث عن هذه الحملات ونتائجها، محاولة من السلطة لتبرير ما يحدث بشأن أزمات الغذاء في بلاد تعيش أزمات مالية حادّة، لعل أهمها رفض صندوق النقد الدولي أو يكاد منح تونس القرض المعلن، وهو بحوالى مليوني دولار، وهو إجراء شدّد الخناق المالي على الخزينة العامة التونسية التي تعيش أزمة سيولة لم تعرفها من قبل، خصوصاً أن المانحين الدوليين يشترطون الإفراج عن الدعم المالي بحصول تونس على قرض صندوق النقد الدولي، وهي ضمانة نقدية وسيكولوجية في الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من ذلك، استطاعت تونس أن تحصل على قرض ومنحة من السعودية تقدّر بحوالى 500 مليون دولار. وشكّل ذلك متنفساً ظرفياً للموازنة العامة للدولة، حتى إن عناوين الصحف هذه الأيام تصدُر بتساؤلات، وببنط عريض، عن الإمكانات المتاحة لسد الثغرات المالية والنقدية للموازنة العامة للدولة، إضافة إلى حتمية إيجاد حلول لتسديد القروض الدولية المتخلدة بذمّة الدولة التونسية. فقد لجأت السلطة هذه الأيام إلى الاقتراض من البنوك المحلية بالعملة الصعبة. والغالب أن الغاية من هذا القرض كانت تسديد مستحقات الإيفاء بجانب من القروض المالية العالمية. وأعلنت السلطة التونسية هذه الأيام فتح باب اكتتابٍ وطني لتجميع مبالغ تقدّر بحوالى 700 مليون دينار تونسي لسدّ ثغرات الموازنة التونسية والاستجابة لمتطلبات الضغوط ذات العلاقة بالتأجير ومتطلبات التصرف لمؤسسات الدولة. وقد بات هذا الوضع الاقتصادي الشغل الشاغل للإعلام التونسي بصفة عامة، حتى إن الصفحات الافتراضية لوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تركّز على المسألة الاقتصادية، وتغيب بذلك كل الملامح المتعلقة بالشأن السياسي العام.

الحياة اليومية للتونسي ومعاناته بحثاً عن رغيف الخبز ومستلزمات العيش جعلته يلهث وراء تسديد أبسط حاجياته، ولم تعد لديه آمال عريضة في ما قد يحدُث على مستوى تغيير منتظر للواقع

كان الشأن السياسي لعدة سنوات، وخصوصاً منذ سنة 2011 مع سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، القوت اليومي للتونسيين في التلفزيونات العامّة والخاصّة والإذاعات الحكومية والأهلية من خلال منابر حوار ونقاشات بشأن الخيارات السياسية للأحزاب وأطياف المجتمع المدني وأقطاب الفكر والسياسة، لطرح جدل ونقاش وحوار حول الشأن السياسي العام، وتداعيات هذه الخيارات أو تلك، ومواقف هذا الحزب أو الأحزاب الأخرى، في ظل معادلة تحكمها متطلبات الظرف والانتقال الديمقراطي آنذاك، وسيطرة جانب من الأحزاب على المشهد السياسي، حتى إن بوصلة الاختيارات المتعلقة باختيار مصادر الأخبار ومحطّات الحوارات اختلفت بالنسبة إلى التونسي، فقد حالت السياسة التعتيمية التي اعتمدها نظام الحكم الأسبق للرئيس بن علي دون تغطية لما كان يحدُث من توترات في الحوض المنجمي (2008) أو مظاهرات واحتجاجات في مناطق متعدّدة في تونس، حيث باتت القنوات الأجنبية مصدر الخبر متابعة وتعليقاً، وهو ما أكدته عديد الدراسات الأكاديمية في الجامعة التونسية التي حاولت رصد العلاقة بين الاحتجاجات الشعبية والتحوّل السياسي وأثر الإعلام في ذلك.

ومع هروب بن علي في يناير/ كانون الثاني 2011، أصبحت القناة الرسمية التونسية للتلفزيون الوطني مصدر الخبر الأساسي للتونسيين بشكل عام، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن الأسباب التي تجعل القناة الوطنية اليوم للتلفزيون أو الإذاعات بشكل عام التي تجعلها مغيّبة عن الجدل السياسي المتعلق بالخيارات الكبرى، هل أرادت السلطة السياسية الحاكمة أن يكون الأمر كذلك، أم أن معطيات أخرى تختفي وراء هذا العزوف عن الجدل السياسي والحوارات ذات العلاقة بالشأن العام؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالإعلام، وهي السمة التي تميزه اليوم، فالمسألة لا تختلف عن علاقة التونسي بالسياسة التي تكاد تنحصر في متابعة أخبار السلطة ضمن قوالب معينة وأسلوب محدّد اختفت فيه أو تكاد مسحة النقد؟

الحياة اليومية للتونسي ومعاناته بحثاً عن رغيف الخبز ومستلزمات العيش جعلته يلهث وراء تسديد أبسط حاجياته، ولم تعد لديه آمال عريضة في ما قد يحدُث على مستوى تغيير منتظر للواقع المعيش. ولئن كانت هذه المقاربة محلية بالأساس، يرى بعضهم أن أزمة الاختناق الاقتصادي والاجتماعي مردّها كذلك في أكثر من جانب لواقع جيوسياسي خيّم على العالم. ولم تكن تونس ولن تكون استثناءً، خصوصاً مع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، إضافة إلى تبعات الهجرة غير النظامية، حيث تعيش تونس هذه الأيام على وقع آلافٍ مؤلفة من مواطني جنوب الصحراء الأفريقية الذين يفدون إلى تونس، ويستقرون فيها، على أمل العبور إلى أوروبا.

تعمّ في الشارع التونسي موجة خوف حادّة من ردود فعل السلطة إزاء المختلفين في وجهات النظر معها، أو المنتقدين لمنجزها

ولم تكن هذه الأوضاع الوحيدة التي تخيّم على الواقع السياسي التونسي، بل كانت للتوتر السياسي في ليبيا انعكاسات على المبادلات التجارية بين البلدين، باعتبار أن ليبيا شريان مهم للاقتصاد التونسي، ولا يمكن أن ننسى ما قد تخفيه الأيام المقبلة من تداعيات، خصوصاً أن الأوضاع في النيجر مرشّحة للتعقيد مع تلويحٍ يكاد يكون يومياً باستعمال التدخّل العسكري لإعادة ما يُطلق عليها الشرعية الدستورية والسياسية في هذا البلد الأفريقي. وإذا كان هذا الجانب الجيوسياسي يعتبر مهماً، فإن عوامل داخلية أخرى تدفع أيضاً إلى العزوف والنفور من الشأن السياسي، باعتبار أن السلطة السياسية في تونس تعمد إلى سياسة الصمت وعدم الإفصاح عن الخيارات والسياسات وأسباب الأزمات التي يحاول رئيس الدولة بين فينة وأخرى أن يدفعها إلى أطراف أخرى لا تريد للدولة التونسية الاستقرار، كما يقول، حتى إنه يتحدّث أيضاً عن غرف مغلقة ولوبيات فساد ومحاولات تفجير الدولة من الداخل.

لقد وقف التونسيون على عجز السلطة عن إدارة الأزمات المتتالية، وأهمها أزمة الخبز ذات الأبعاد الرمزية والنفسية للشخصية القاعدية التونسية، والتي يواصل أعلى هرم السلطة إنكار أسبابها الهيكلية، وإرجاعها للمضاربين والمحتكرين والمتآمرين على نسق تواصل خطاب الإنكار الذي يشهده مسار 25 يوليو 2021. كذلك لا يمكن أن يغيب سبب رئيسي آخر يجعل التونسيين، نخباً وشرائح شعبية، ينفرون من السياسة والسياسيين، إذ تعمّ في الشارع التونسي موجة خوف حادّة من ردود فعل السلطة إزاء المختلفين في وجهات النظر معها، أو المنتقدين لمنجزها الذي ظلّ يراوح مكانه منذ سنتين، فعلاقة السياسة بالخوف ليست جديدة. وقد انشغل مفكّرون ببحثها والتنظير لها منذ توماس هوبز (1588-1679) وكذلك ماكيافيلي (1469-1527)، وصولاً إلى ميشال فوكو (1926-1984) وغيرهم. والملاحظ اليوم أن المجتمع التونسي يتحوّل إلى مجتمع الخوف إزاء ما تشهده الساحة السياسية من محاكمات لسياسيين وإعلاميين ورجال أعمال تحت عناوين وتهم غامضة وغير مؤكدة.

يعيش التونسيون خيبة أملٍ كبيرة في السياسة ونخبها، وفي المرحلة ونتائجها، فلم يبق أمامهم إلا العزوف عنها والانشغال بتفاصيل حياتهم اليومية، أمام أفقٍ لا ضوء فيه ولا أمل في التغيير في انتظار معجزةٍ لعلّها تحدُث.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي