الحصاد المرّ للغياب المصري عن السودان

الحصاد المرّ للغياب المصري عن السودان

30 ابريل 2023
+ الخط -

وقّع المكوّن العسكري الحاكم في السودان، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، مع قوى مدنية بارزة، في مقدمتها إعلان الحرية والتغيير وبعض الحركات المسلحة وأطراف أخرى، اتفاقاً إطارياً لحلّ الأزمة السياسية في البلاد. ولافتٌ للنظر عند متابعة هذا التطور السوداني المهم الغياب المصري بشكل كبير عن دائرة الأحداث والتطوّرات هناك، وكان صراع مركب وانقسام أفقي ورأسي يدور في السودان بين القادة العسكريين أنفسهم وبينهم وبين المدنيين وبين المدنيين أنفسهم بشأن تفاصيل هذا الاتفاق. اختلف رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه رئيس قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة والقوى المدنية من جهة أخرى بشأن الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، وعلى مقترح الانتقال إلى حكم مدني. ووفقاً للجدول الزمني المتوافق عليه، كان من المفترض الإعلان عن رئيس وزراء جديد ومناصب أخرى في موعد أقصاه يوم 11 إبريل/ نيسان الجاري، إلا أن الموعد انقضى بعد أن فشل الطرفان في التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي تم الإعلان عنه في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الماضي مرتين، بسبب الخلافات حول الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش التي تتهم قيادتها مصر بأنها قوة احتلال في خطابٍ شعبوي لمناصريه.

رغم تضخيم سودانيين عديدين الدور المصري في السودان، سواء أكان تقييمهم له سلبياً أم إيجابياً، يثار تساؤل رئيس من أي متابع مدقق للشأن السوداني وتطوراته أخيرا، وبالذات منذ انقلاب أكتوبر 2021، حيث تغيب مصر عن أغلب الآليات الإقليمية والدولية بشأن الأزمة التي أحدثتها تطورات هذا الانقلاب، فالآلية الثلاثية أو الرباعية لا نشاط يذكر فيهما لمصر، بل وتخلو مجموعة أصدقاء السودان من الوجود المصري بشكل مستهجن لأي مختص، مؤيدا للنظام الحاكم في مصر أو معارضا له، فلا مبرّر منطقياً لغياب جديد عما يجرى في دول الجوار التي تمثل عمقاً استراتيجياً لمصر، وتؤثر الأحداث فيها بالضرورة على أمنها واستقرارها.

يشارك في هذا التضخيم للدور المصري للسودان مؤيدون شعبويون للنظام وكل نظام في مصر، بدءاً بمن صوّروا لنا أنّ السودان في جيب الأجهزة السيادية المصرية في الأزمة الشهيرة بين مصر والجزائر في 2009، بعد مواجهة كروية بين البلدين في ملعب في الخرطوم، وانتهت بفضيحة كبيرة لمردّدي هذا الادعاء وأزمة دبلوماسية متعدّدة الخيبات بين مصر والسودان والجزائر، وصولاً إلى من يتصورون أنّ النظام المصري الحالي يحرّك المشهد في السودان كيفما يشاء، عبر علاقته بالجنرالات هناك. والحقيقة أنّ هذا ادّعاء غير واقعي، فتردد قيادات الجيش السوداني على الإمارات وعلاقاتهم بها أقوى عشرات المرّات مما هو عليه في علاقتهم بمصر عبد الفتاح السيسي، بل تسعى الإمارات إلى السيطرة والاستحواذ على الميناء الرئيسي في السودان في بورتسودان على البحر الأحمر، لتُحكم سيطرتها على البحر الأحمر، ويصبح أقصى ما نتمنّاه هنا ألا يكون إحكام السيطرة هذا ليس لصالح الحلفاء الاستراتيجيين الجدد للإمارات في دولة الكيان.

مشهد مهين للمصريين اعتقال مليشيا حميدتي في السودان قوات مصرية، ثم إظهار مصر شاكرة مهللة للإمارات على جهودها في تحرير جنودها في مشهد مقصود

وبينما يحضر حلفاء مصر الاستراتيجيون، وبشكل رئيسي الولايات المتحدة والسعودية والإمارات، ضمن الآلية الرباعية، فإن غياب مصر عنها غير منطقي ومستهجن، وهي أكبر مضيف للاجئين والنازحين السودانيين ودولة جوار مهمة، وإن أرادت قيادتها دورا تابعا وارتضته في ضوء أزماتها الاقتصادية المحلية الطاحنة، فالأدوار لا تتخلّى عن أصحابها، وإن تخلّوا عنها. والتبعية للأطراف في النظام الدولي، وليس لمراكزه، لا تليق بها، ناهيك عن أنها في تاريخها الحديث كانت إحدى بؤر مكافحة التبعية ورموز عدم الانحياز.

نرى هذا الوضع الذي تغيّب فيه مصر نفسها أو يجرى تغييبها عما يجري في السودان، ونحن حاليا بصدد مرحلة انتقالية حرجة وممتدة، ربما انتقلت إلى حالة الحرب الأهلية الشاملة. ونحن في خضم ملء رابع لسد النهضة في أثيوبيا من دون اتفاق، قبل أن يخرج علينا عرّابو مجموعات "لن يضرّنا السد ولن يضرنا الملء الثاني"، علينا أن نعيد تذكير هؤلاء بأن الخط الأحمر الذي وضعته السلطة في مصر، سواء على لسان الرئيس أو وزير الخارجية أو وزير الري، أو كل إعلامييها، هو حدوث الضرر أو البدء في الملء الثاني من دون اتفاق قانوني مُلزم للملء والتشغيل. ومنذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها إثيوبيا بناء السد من دون إخطار أو تفاوض بشأنه بالمخالفة لكل الاتفاقات الدولية والأعراف الدولية المرعية، فإن الدراسات الفنية تشير إلى حدوث أضرار مؤكدة من ملء سدٍّ بهذا الحجم لتخزين 74 مليار متر مكعب. وكان مطلب مصر والسودان توزيع هذا الضرر على سنوات أطول، حتى لا تحدُث أضرار جسيمة جرّاء الملء في سنوات أقلّ، ولا تستطيع الدولتان التأقلم معها، رغم كل شيء، إلا أن تنسيقا كان بين مصر والسودان في مواقف عديدة. ولكن يبدو أنه قد تبخّر، وأصبحنا على غرار ليبيا نحتاج وساطة في علاقتنا بالسودان.

وقد قاد هذا الوضع التبعي للإمارات في الإقليم إلى فشلٍ جديدٍ للسياسة الخارجية المصرية، ويجرّ المنطقة إلى كارثةٍ بعد أخرى فقط من أجل المكايدة ضد الثورات وإرادة الشعوب، وما أفرزته خياراتها من صعود لتيار الإسلام السياسي الذي كان يمكن ترويضه، بل وربما وضعه في الزاوية، وإزاحته عبر تطور ديمقراطي حقيقي. مع الأسف، يتناسى كثيرون من أصحاب ذاكرة السمك يتناسون، ومع الأسف، أكثر وبحكم العمل البحثي علي أن أتذكّره فقد كان اليمنيون قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى دولة حقيقية على الطريق الصحيح، عندما تركوا لذواتهم وتطوّرهم الذاتي، فمن يقرأ وثيقة الحوار الوطني الشامل يجد نفسه أمام أعظم وثيقة دستورية عربية تقريباً. وثيقة إذا ما طبّق أطرافها التزاماتهم بنصوصها كنا لنرى يمناً مختلفاً الآن تماماً.

للأسف الشديد، فخخ بعضهم الوضع اليمني مبكّرا أساسا بوثيقة المصالحة الخليجية المعطوبة، حيث كان همّ هؤلاء الوحيد ضمان خروج آمن لعلي عبد الله صالح، حتى لا تكون هناك سابقة محاسبة حقيقية لرئيسٍ في هذه المنطقة البائسة، ليعود هو نفسه لاحقا فيتحالف مع الحوثي ضدهم وضد الثورة اليمنية، فينشأ تحالف عربي في عام 2015، يخوض حرباً عبثية ثماني سنوات من دون جدوى، عائدا إلى نقطة الصفر في عام 2023، قابلا بشروط من سمح هو بتمدّدهم فقط خوفاً من انتخاباتٍ قد تأتي بالإسلاميين وقد تذهب بهم.

لا تملك مصر البيانات الاستخبارية والبحثية الكافية لتحديد موقفها مما يجري في السودان، فلا تستطيع تقدير الموقف

في العام نفسه، حرضت اسبرطة الجديدة مصر واستتبعتها إلى موقف غريب عجيب بدعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا التي كانت قاب قوسين أو أدنى من إنجاز دستور شديد التطور وإنجاز انتخاباتها واستكمال مؤسّساتها، ليخوض أربع حروب ضارية للسيطرة على كامل ليبيا فيفشل، بعد جلب تدخلات دولية لا حصر لها، وتخسر مصر كثيرا، حتى لا يعتبرها أحد طرفا يمكن الوثوق به، وتصبح منبوذة في دولة جوارها، وتحتاج وسطاء لإدارة علاقاتها معها. وليعود المشهد الليبي في 2023 إلى نقطة انقسام أشدّ مما كان عليه في 2014، ومهدد بالانزلاق للحرب في أي وقت، والتبرير الوحيد أن هناك تحالفاً عربياً مقدساً ضد الثورات يشيطنها.

مشهد مهين للمصريين اعتقال مليشيا حميدتي في السودان قوات مصرية، ثم إظهار مصر شاكرة مهللة للإمارات على جهودها في تحرير جنودها في مشهد مقصود، أصبحت مصر فيه غير قادرة على حماية جنودها وبعثاتها الدبلوماسية، ناهيك عن كونها أضعف من أن تلعب دور الوساطة في عمليات الإجلاء للبعثات الدبلوماسية، فتذهب عبارات شكر الأوروبيين والأميركيين لجيبوتي وإرتريا والسعودية على جهودهم في إجلاء رعاياها ودبلوماسييها، بينما يقع الدبلوماسيون المصريون أنفسهم ضحية هذا الغياب، ويُستهدف مساعد الملحق العسكري في وضع لا يرتضيه أي مصري.

يشير هذا الغياب أو التغييب لمصر عن السودان التي هي أكثر من قضية حدود ومياه وأمن قومي وفناء خلفي وعمق استراتيجي إلى أحد سيناريوهاتٍ أحلاها مرّ، أولها أن مصر كانت لا تملك البيانات الاستخبارية والبحثية الكافية لتحديد موقفها مما يجري في السودان، وبالتالي لا تستطيع تقدير الموقف وبناء سياسة خارجية واضحة، وهذه كارثة في بلدٍ تحكمه الأجهزة العسكرية والأمنية. وثانيها أنها تملك مثل هذه القدرات الاستخبارية والبحثية، لكنها غير قادرة على الفعل السياسي في نطاق جوارها المباشر، وهذه كارثة أكبر. وثالثها أنّ هناك قراراً سياسياً بالتبعية لأطراف الأطراف في النظام الدولي وارتضاء تام بأن تدير قوى إقليمية أصغر ليس فقط الإقليم، بل وحتى علاقات مصر بدول جوارها المباشر مقابل تعويم النظام أطول فترة ممكنة، وهذه طامّة كبرى على مصر والمصريين، لأن تبعاتها غير محمودة، بل شديدة الكارثية حالا ومستقبلاً.