بأيّ حالٍ عاد عيد المصريين؟

بأيّ حالٍ عاد عيد المصريين؟

11 ابريل 2024
+ الخط -

عادةً ما ينتظر المصريون الأعيادَ بمظاهر البهجة والسعادة، وعبر الأنشطة والفعّاليات، من البيوت إلى الشوارع. وفي رمضان بالذات، قيلت أشعار في رمضانات مصر، فـ"رمضان في مصر حاجة تانية... والسّر في التفاصيل" بتعبير المغني الإماراتي حسين الجسمي، في أغنيةٍ لا يستشعرها سوى مصريو الخارج، وغير المصريين ممن عاشوا الأجواء الرمضانية في مصر، لكن يبدو أنّ المصريين أنفسهم في الداخل لم يعودوا يشعرون كثيراً بهذه الأجواء منذ سنوات مضت، فمجتمعات "الكومباوندز" أو الأحياء السكنية المسوّرة تخلو من مظاهر رمضانية، وتعتبرها شعبيةً لا يجب أن تقترب من طبقتهم، وإن أرادوا الشعور بها ذهبوا إلى أقرب حيّ شعبيّ يتزيّن بزينة رمضان. لكن، هل ما زال البسطاء قادرين على الإحساس بفرحة العيد بصنعهم أجواءً رمضانيةً طوال الشهر، لاستحضار تلك الحالة الرمضانية الفريدة حقّاً في مصر؟

معدّل التضخّم تجاوز 33% في الشهر الماضي (مارس/ آذار). غالبية الأسر فقيرة ومُفقَرة، وغير قادرة على شراء ملابسَ جديدةٍ للعيد، وزحفت أفواج كانت تظنّ نفسها طبقةً وسطى نحو أسواق الملابس المستعملة، وانخفضت الأجور الحقيقية كثيراً رغم الارتفاع النظري للأجور النقدية، فحدّها الأدنى الذي كان يساوي 150 دولاراً في يناير/ كانون الثاني 2023 هو الآن لا يتجاوز 130 دولاراً، فيما تأتي مصر في ذيل قائمة الدول الأقلّ أجوراً في العالم، بمتوسطٍ أقلّ من 118 دولاراً، وانخفضت تحويلات ذويهم في الخارج نحو 25% في الأشهر الماضية. بهذه المعطيات، يستقبل المصريون هذا العيد. وهناك فارق كبير بين مسلسلات الإعلانات الرمضانية، التي تنادي بالمبادرة والإسراع بحجز وحدات سكنية في المشروعات الجديدة الفارهة بأسعار أكثر من خياليّة، ونداءات الاستعطاف للتبرّع للمستشفيات المختلفة لعلاج أمراض السرطان، وغيرها، وهي حقوق أساسية للمواطنين انسحبت الدولة من أمامها بشكلٍ كبير أو هي عاجزة عن تلبيتها، في بلد يفترض أنّ به نظام تأمين صحي شامل، لكنّه ينفق مئات المليارات على بنية تحتيّة لمشروعات جديدة، لن يستعملها غالبية المصريين المُفقرين، الذين وعدتهم محلات "الكحك" بتقسيطه بنكياً لأول مرة.

غالبية الأسر فقيرة ومُفقَرة، وغير قادرة على شراء ملابسَ جديدةٍ للعيد

حال غالبية الأُسر المصرية يُرثى له. ترى هذا في وجوه المتجوّلين في الشوارع والأسواق، ولا سيّما أسواق الملابس المستعملة التي لم يعد الحد الأدنى للأجور، المنتظر تطبيقه، قادراً على شراء طقم لكلّ فرد في الأسرة، ناهيك عن ملابس جديدة. خفّض المصريون غالبية استهلاكهم للسلع الأساسية رغم أنوفهم، مع ما يحمله هذا من تبعات صحّية محتملة، من تفاقم سوء التغذية والأمراض المرتبطة به، ومن قزامةً وولادات قيصريّة أو تبعات اجتماعية، تتمثّل في أعلى انخفاض في نِسَب المواليد، وربما نِسَب الزواج أيضاً، مع ارتفاع حدّة التوتّرات الاجتماعية، وحالات الطلاق، والسرقة، والمشكلات اليومية التي تواجه المصريين في الشوارع يومياً.

ليس هذا فحسب، إذ يغرق المصريون في آلام حرب غزّة، التي كشفت وهم الصدارة الإقليمية، والقدرة على الفعل، والدور الوظيفي النشط، ليكتشف الجميع أنّ دولتنا، أكبر دولة عربية، غير قادرة على التحكم بمعابرها ولا حتى على إدخال المساعدات الإنسانية لدولة في جوارها المباشر، طالما اعتُبِرَت قضيّتها مركزيّة لشعب مصر، في تراجع تامّ لثوابت الأمن القومي التاريخية والجغرافية، رغم وجود قراراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ وغطاء شعبي يسمح لأيّ نظام كان أن يخرج من هذه الحرب بطلاً قومياً، بلا كثير جهد أو عناء، سوى تنفيذ القرارات الدولية. ولو استمرت هذه الحرب على حدود بلد أفريقي أو أميركي لاتيني، لفعل نظامه أكثر بكثير مما فعله هذا النظام الذي لا يسمح حتى بالتظاهر للتعبير عن الغضب الكامن تجاه المحتلّ وحربه على الأطفال والنساء والشجر والحجر، خوفاً من أن تنفلت تلك التظاهرات وتخرج عن السيطرة، فيقبِضُ على من يرفعون علم فلسطين، وعلى من رفعوا شعارات مغايرة لفعّالية يتيمة نظّمها النظام نفسه، وكأنّ المعادلة: اغضب في صمت ومت كمداً، لكن لا تعبّر عما بداخلك. ويخرج علينا رئيس البلاد يمنّ علينا باستقرار زائف، وبأنّ حالنا أفضل من حال شعوب في جوارنا، لا يستطيع هو إدخال المساعدات إليهم، وكأنّ علينا أن نحمد الله أننا لم نحتلّ بعد، ولم يُفعل بنا ما فُعل بغزّة وأهلها. المهمّ أن نشكره على البقاء أحياءً، أما نوعية الحياة التي نحياها فغير مهمّة.

البنوك وبيوت التمويل وعدتا المصريين بتقسيط "كحك" العيد واللحوم وبعض المنتجات، وهو ما يتندّر به المصريون على مواقع التواصل الاجتماعي

يعترف الرئيس عبد الفتاح السيسي، في غير مناسبة، بتدنّي الأجور وعدم كفايتها، وعدم سعادة المواطنين، وليس آخر هذه الاعترافات تصريحه بأنّ المواطن كان سعيداً في الخمسينيات، رغم أنّه كان يقبض جنيهات فقط، بينما هو ليس سعيداً الآن وهو يقبض آلاف الجنيهات، وكأنّ التضخّم ثابت في عقل المتحدث، وبينما لا يفتأ يذكّر المواطنين بضرورة التقشف، وهو يفتتح عاصمته الجديدة بحفل تنصيب مهيب، يعتبر أنّ الله قد وهبه المُلك وعلّمه من تأويل الأحاديث ما تعجز عنه العامة والنخب المصرية، بينما تبشّر حكومته الأهالي بالعودة إلى جدولة انقطاعات الكهرباء التقليدية بعد العيد، إذ لا ينبغي أن يعتاد الشعب انتظام الكهرباء لأنّه يتعارض مع سياسة تخفيف الأحمال للتعامل مع أزمة السيولة وأزمة الطاقة، في آن واحد.

أما التطوّر اللافت فهو أن البنوك وبيوت التمويل وعدتا المصريين بتقسيط "كحك" العيد واللحوم وبعض المنتجات، وهو ما يتندّر به المصريون على مواقع التواصل الاجتماعي. إنّها كارثة كبرى في ظلّ ارتفاع معدّلات الفائدة المصاحبة للتعويم، والاضطرابات المالية التي تمنع مستوردي العديد من السلع من استلامها من الموانئ لارتفاع تكاليفها، مما دفع الحكومة إلى تهديد التجّار بمصادرة تلك السلع في حال لم يستلموها. يخشى الناس من ارتفاع يومي محتمل للأسعار، ما يسبّب لهم قلقاً دائماً. كلّ عام ومصر والمصريون جميعهم بخير، وكان الله في عونهم على هكذا حكومة وهكذا حال.