هل تنقذ الصفقات الكبرى الاقتصاد المصري المأزوم؟

هل تنقذ الصفقات الكبرى الاقتصاد المصري المأزوم؟

02 مارس 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

عندما أعلن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في 23 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، عن بعض تفاصيل الصفقة الغامضة بشأن منطقة رأس الحكمة بالساحل الشمالي المصري، انهالت المبالغات المعتادة من "إعلام السامسونج" مبشّرة بالصفقة التي وصفت بأنها "أضخم صفقة استثمار مباشر في التاريخ"، ومرّات مخففة باعتبارها "أضخم صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر"، وليس التاريخ على إطلاقه. وقد تداول المصريون الصفقة بشيء من السخرية والريبة التي انتابت حقّ المصريين في معرفة تفاصيلها، وأحيانا البحث عن معلومات وتفاصيل أكثر عنها.

بحسب ما تسرب، فإن مشروع رأس الحكمة صفقة بين مصر وصناديق سيادية إماراتية مع وعود باستثمارات تقدر بحوالي 150 مليار دولار على فترة المشروع التي لا يعرفها أحد، ومن المفترض أن يتدفق منها 24 مليار خلال الشهرين المقبلين، وأن يتم تحويل 11 مليار دولار من ديون إلى استثمارات ولنعتبرها كذلك مجازا فيما يشبه إعادة الجدولة للديون.

ويتساءل بعضهم عن جدوى هذه الصفقات الكبرى، وبخاصة أننا في العام 2015، وبالتحديد بمؤتمر شرم الشيخ لدعم الاقتصاد المصري، "بلغ إجمالي حصيلة الأموال التي أعلنت خلال المؤتمر، وتشمل الاتفاقيات النهائية، ومذكّرات التفاهم، والقروض والمنح، بحسب رصد أجراه موقع مصراوي غير الحكومي، نحو 194 مليار دولار، أي ما يعادل قرابة 1,5 تريليون جنيه".

هل أنقذت تلك الوعود الاقتصاد المصري من أزمته البنيوية المتمثلة في الفجوة التمويلية الضخمة، الناتجة من عدم تناسب الإيرادات والمصروفات وعدم قدرة الاقتصاد شبه الريعي على إيجاد القيمة المضافة أو تعزيز زراعته وصناعاته التحويلية وأوضاع العاملين فيه، ومن ثم الحفاظ على إنتاجه وقيمة عملته وسط أزماتٍ طاحنة تشهدها المنطقة والعالم؟ الإجابة القاطعة هنا أنها لم تفعل، فبعدها مباشرة بدأت سلسلة تعويمات خطيرة للعملة المحلية، امتثالا للدائنين ومشروطيات المؤسّسات المالية الدولية، التي كتبت مستقبل مصر بشروط دائنيها وصناديق الاستثمارات الخاصة بهم، وليس بشروط المصريين في صندوق الانتخابات، ولا بالشروط الموضوعية للتنمية وفقا لوضعية الاقتصاد المصري.

بالغ بعضهم في حجم الصفقة وبتوقيعها عن طريق رئيس الوزراء، بينما تناسوا أعداد رؤساء الدول والحكومات والشركات العالمية التي حضرت مؤتمر دعم الاقتصاد المصري بشرم الشيخ، والتي حظيت حينها بموجاتٍ من المبالغة والدعاية والضجيج الإعلامي غير المسبوقة، تبشيرا بتأثيراتها على العملة المصرية والاستقرار وخفض التضخّم وتحسين حياة المصريين، وفي سياق لم تكن فيه حرب روسية أوكرانية أو كورونا أو حرب إقليمية تمسّ بتفاصيلها بقناة السويس والسياحة وربما تهدد تبعاتها النظام السياسي.

إذا لم تكن مصر واقعة بهذا الوضع الرديء الذي يتقاتل فيه الناس للحصول على كيلو السكر، فما معنى السقوط؟

يعزف بعضهم على نغمة مصر أكبر من أن تقع ولن يتركها أصدقاؤها ولا أعداؤها للسقوط، محاولين إيجاد تفسيراتٍ وتبريراتٍ لعمليات بيع التراب الوطني ومنطقها المتهافت. والحقيقة أن علينا أن نتساءل: إذا لم تكن مصر واقعة بهذا الوضع الرديء الذي يتقاتل فيه الناس للحصول على كيلو السكر المُبالَغ في أسعاره في أحد أقدم البلدان المنتجة له وأكبرها، وعلى السماد الذي بيعت مصانعه الاستراتيجية لمستثمرين أجانب، ولا يجده أغلب المزارعين بأضعاف أسعاره قبل سنوات، فما هو معنى السقوط إذن؟

إذا لم تكن ساقطة، بينما، على سبيل المثال، بالأسعار الحالية للدولار، فأجور الأطباء والمعلمين والمهندسين في سورية وليبيا واليمن والصومال وفلسطين، وهي بلدان حروب أعلى منها في مصر، فليحدّد لنا هؤلاء مفهومهم للسقوط إذن، كي نحتسب حسابا لهذا السقوط لا سمح الله. هل السقوط لدى هؤلاء بقطع المصريين بعضهم بعضاً في الشوارع إلى أشلاء لا قدر الله أم أن يدخلوا في حربٍ أهلية أم ماذا؟ وإلى أين ستسقط أكثر من ذلك، لكي يتوقّف منهج بيع البلاد بالقطعة وبالجملة؟ ألم يكن السودان في عهد عمر البشير ساقطاً عند مغادرته للسلطة؟ وهو الذي ترك السلطة في البلاد وسعر الجنيه السوداني في أبريل/ نيسان 2019 (حوالي 48 جنيها للدولار) أفضل من سعر نظيره المصري حاليا، والذي تجاوز 70 جنيها للدولار في السوق السودان؟

يتساءل بعضهم عن النهج المتبع من بعض دول الخليج تجاه مصر، وما إذا كانوا يسيرون بمنطق "إذا خرب بيت أبيك أسرع وخذ لك منه طوبة"، أم طوّروا هذه الاستراتيجية إلى أن لا بد أن تسرع عملية خراب بيت أبيك حتى يعرضه للبيع وتأخذ لك منه طوبة؟. ... هناك من يدفع تبريرات ممن يفترض أنهم على دراية وفهم بأن هذا هو المخرج الوحيد للبلاد، بدلا من السقوط في مجاعاتٍ ومشكلات، يحاجج بعضهم بأن القطاع العقاري هو الرافعة الأساسية للاقتصاد المصري. ويسري هذا الزعم في عروق النخبة الاقتصادية المصرية، لكن هذا القطاع لم يحل أية أزماتٍ هيكلية، ويمكن الرد على هؤلاء بأن كل الاستثمار العقاري الذي حصل في الولايات المتحدة لم يمنع وقوعها في أزمة الرهن العقاري، وأوقعت العالم كله فيها.

لو أفنت الإمارات صناديقها السيادية على شراء مصر كلها، طالما استمرّت العقلية نفسها والسياسات نفسها حاكمتين، لن تنحل مشكلات مصر

وينبهر هؤلاء بحجم الاستثمارات الخليجية وقدرتها على حل المشاكل ولو رأوا حجم العمران وضخامته في كل المدن اللبنانية منذ نهاية الحرب الأهلية وما حدث من طفرةٍ في أسعار الأبنية، فهل أدّت هذه الاستثمارات إلى انتعاش الاقتصاد؟ هل جعلت الأسعار رخيصة أو معقولة أو مستقرّة حتى؟ هل حمت الليرة من الانهيار؟ يحسبون التنمية بالكباري (الجسور) والبنية التحتية فقط، وربما لم يروا البنية التحتية في اليونان، هل حمت الاقتصاد رغم حُزم الإنقاذ التي حصلت عليها من الاتحاد الأوروبي وترويكا الدائنين، وكم عاما احتاجت كي تستعيد بعضا من عافيتها بالكاد في دولةٍ من مؤسّسي الاتحاد الأوروبي؟

وهل نجا المغرب ذو البنية التحتية، وما فيها من طرق عالمية بمعايير أوروبية ومواصلات عامة بكل المدن وعمران واستثمارات خليجية وأوروبية ضخمة بالمدن الساحلية، من الفقر والبطالة والغلاء وتبعاتها من هجرة غير شرعية ومشكلات اقتصادية واجتماعية رغم استقرار عملته وملكه نسبياً؟ بل هل رأيتم البنية التحتية والعمران في تركيا التي لعل أسوأ أحياء عاصمتها التاريخية إسطنبول فيه بنية تحتية وحجم عمران ومجمعات سكنية ومشاريع عملاقة أضخم من مجمل العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية وخط الساحل الشمالي وكل الخطط التي نسمع بها في مصر مجمعة، وهل حلّ العقار فيها أزمة العملة إذا كنتم تروْنها الأزمة الأساسية؟

ومع ذلك، لم تبع هذه التجارب قطعاً منها بصفقات صفيقة على الملأ ومن دون علم شعوبها أيا من التفاصيل، وكأنهم لا حقوق لهم، وفي كثير منها (التجارب) إجراءات حقيقية لحماية المواطنين من الفقر والبطالة والجوع وتدهور قيمة العملة والغلاء. بل إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تحل الاستثمارات العقارية الضخمة للنظام المصري في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها من المدن الجديدة، الأزمة الاقتصادية؟ بل يعتقد كثيرون أن الإنفاق الكبير على هذه المشروعات غير المدروسة عمّق أزمة الدولار والتضخم والفقر. ولو أفنت الإمارات صناديقها السيادية على شراء مصر كلها، جملة أو بالقطعة، طالما استمرّت العقلية نفسها والسياسات نفسها حاكمتين، لن تنحل مشكلات مصر، لأن هذه المشكلات أكثر تعقيدا من حلول مالية مؤقتة لأزمات اقتصادية معقّدة.