مصر عندما تدمّر زراعة القصب بأيدي حكومتها

مصر عندما تدمّر زراعة القصب بأيدي حكومتها

11 فبراير 2024

مزارع مصري مع عربة محمّلة بقصب السكّر قرب قرية القرنة قرب الأقصر (2/3/2016/Getty)

+ الخط -

تتكرّر، منذ سنوات، شكاوى مزارعي قصب السكر في مصر من الأسعار المتدنية التي تريد الحكومة شراء القصب بها، رغم أنّه يدخل في صناعةٍ استراتيجيّةٍ مثل السكّر، وتعتمد عليه صناعاتٌ أخرى بمختلف القطاعات الاقتصادية، من مخبوزات، وحلويات، وأخشاب، وورق، وغيرها، ونحن نتحدّث عن بلدٍ من أقدم البلدان في تاريخ زراعة قصب السكر، وكانت من أكثرها إنتاجاً له، وكان فيها، ولا يزال، قطاع عام قويٌّ مرتبطٌ بزراعة القصب، ولديها محافظات كبيرة، مساحة وسكّاناً، تعتمد على زراعة القصب وتنتشر فيها مصانع السكر بطول الصعيد وعرضه.

الغريب هذا العام أنّنا أمام إصرار حكومي عجيب على عدم التجاوب مع مطالب المزارعين بسعر عادل لطنّ القصب، بينما نعيش أزمة حادّة في أسعار السكر الذي وصل سعر الكيلو منه إلى حوالي 75 جنيها، ولم يعد متوفراً في أماكن عديدة، رغم أنّ المصانع تقول بتوفره، ورغم أنّها لم تُحدِث أزمة كبيرة في الإنتاج ارتباطاً بأزمة العملة، لأنّ جميع مكوّناته تكاد تكون محلية تماماً، وفي بلدٍ هي ضمن الأعلى استهلاكاً للسكّر الذي يدخل في كلّ تفاصيل حياة المصريين.

ويكاد يُجنّ المزارعون عندما يدركون الفرق الشاسع بين سعري طنّ السكر النهائي وطنّ القصب الذي ينتج ما بين مائة إلى مائة وعشرين كيلو سكّر بخلاف المولاس والعسل الأسود والمخلّفات التي تتحوّل إلى خشب وغيره، بينما تريد الحكومة أن تأخذ الطنّ من المزارعين بألف جنيه، وفي أحسن الأحوال ألف وخمسمائة، بعيداً عن كلّ منطق وكلّ عدل، فالحكومة التي تخفض دعمها وتشتري القصب بأسعارٍ أقلّ من سعر السوق من المزارعين تبيع لهؤلاء المزارعين السكّر بأسعار، ربّما أعلى من السعر العالمي.

إصرار حكومي عجيب على عدم التجاوب مع مطالب المزارعين بسعر عادل لطن القصب، بينما نعيش أزمة حادّة في أسعار السكر

تجادل الحكومة بأنّ مصانع القطاع العام تخسر، وأنّها لن تتحمّل تكلفة دعمها، وأنّ هذا يتوافق مع برامج "الإصلاح الهيكلي" أو التقشّف المطلوبة للتوافق مع المشروطيات الدولية، وفي وضع لا يزال القطاع العام هو المنتج الأكبر للسكر، والذي يُباع الجزءُ الأكبر منه في السوق بالأسعار الحرّة. لذا يصبح غير معقول ولا مقبول الحديث عن خسائر لتلك المصانع التي يتجاوز عمر بعضها قرناً ونصف قرن، ولم تتوقّف عن الإنتاج إلا هذا العام، بسبب الفشل الإداري والحكومي، وانعدام عدالة الأسعار، مثلما حدث لمصنع أبو قرقاص في المنيا.

وبينما تتغنّى الحكومة بدعم المزارعين، نجد أنّ هذا ضرب من الخيال، فبنود دعم المزارعين في الموازنة العامة للدولة المصرية تثير الضحك، إذ لا تتجاوز بضعة مئات من الملايين توّزع على دعم أسمدة لملايين المصريين العاملين بالزراعة، لنجد أنّ نصيب المزارع من الدعم لا يكاد يصل لدولار سنوياً بالأسعار الجديدة للدولار في السوق السوداء.

وإذا جئنا إلى مطالب المزارعين، فهي أكثر من عادلة، فأسعار الأسمدة تضاعفت بما يفوق طاقاتهم في السنوات الماضية حتى تكاد تلامس 750 جنيهاً مصرياً، بعد أن كانت أقلّ من 50 جنيهاً في عام 2013، والمشكلة أنّها مرتفعة الثمن ولم تعُد متاحة، وتشهد عمليات التوزيع في الجمعيات الزراعية، أو حتى في محلات البيع الخاصة، مشاجرات للحصول على الأسمدة في أحيانٍ كثيرة.

لا يتعلّق الأمر فقط بعدالة الأسعار المطلوبة من المزارعين، بل بفشلِ إداري عميق، فرئيس الشركة القابضة للسكر والصناعات التكاملية عسكري برتبة لواء، ممن لا يثق الرئيس سوى بأمثاله، ولا ندري ما دخل اللواءات، سواء في الجيش أو الشرطة، بإدارة شركة في قطاع السكر؟

يتداخل مع الفشل الحكومي منافسة من القطاع الخاص على شراء القصب لصالح العصارات ومصانع العسل الأسود

يتعلّق الأمر أيضاً بسياسات حكومية للتكيّف مع أزمة المياه التي صنعها النظام الحالي بالتفريط في حقوق مصر المائية بطريقة مهينة، وذلك بتحليف رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد بالمحافظة على حقوق مصر، بعد أن وقّع معه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، اتفاق المبادئ عام 2015، وبعد أن أضعنا عقداً في مفاوضات عبثية، مع التشديد على المزارعين في تقليص الدعم، وتعديلات قوانين الري، ومسألة تسعير المياه، والتوقّف عن دعم زراعة القصب، وعدم نيّة الحكومة شراء أو دعم أيّة مساحات جديدة من زراعة القصب، باعتبارها زراعة شديدة الاستهلاك للمياه، مع الانتقال والتحوّل المفاجئ وغير المنظّم للمصانع لاستخدام بديل آخر، وهو بنجر السكر، وهو التحوّل غير المدروس، فنحن لا نؤمن بدراسة الجدوى وإنّما بالفهلوة، الأمر الذي كلّف المصانع تعديلات واسعة النطاق في معداتها، وكلّف المزارعين خسائر واسعة وكلّف جميع المصريين أسعاراً مبالغاً فيها لسعر السكّر وأزمات متكرّرة فيه.

ويتداخل مع هذا الفشل الحكومي منافسة من القطاع الخاص على شراء القصب لصالح العصارات ومصانع العسل الأسود، لكنها لا تستطيع استعمال الإنتاج بأكمله، ما يضعنا أمام معضلة إذا قرّر المزارعون تركه في الأرض، أو إشعال النيران فيه، لأنّ تكلفة إنتاجه أعلى من ربحه في حال بيعه بالسعر الحالي، وعلى أقلّ تقدير فإنهم سيتوقّفون ذاتياً عن زراعته، لأنّ زراعات أخرى أصبحت أقلَّ كلفةً وأكثر ربحيةً منه، وبالتالي سنواجه أزمة مزمنة في أسعار السكّر في السنوات المقبلة.

الحكومة التي تخفّض دعمها وتشتري القصب من المزارعين بأسعار أقل من سعر السوق، هي من تبيعهم السكر بأسعار، ربما أعلى من السعر العالمي

وقبل أن يخبرنا أحد الممالئين للحكومة بأنّ الحكومة تتبع هذه السياسة حفاظاً على صحة المواطنين (لا سمح الله) بافتراض أنّهم سيخفّضون استهلاكهم من السكّر بارتفاع أسعاره، فإنّنا نواجه بزيادة في واردات السكّر، وفي الوقت نفسه، بوجود شركات خاصة استولت على بعض مصانع القطاع العام، وتصدّر السكّر إلى الخارج، رغم وجود أزمة في السوق المحلية.

عندما استلم النظام الحالي السلطة، لم يكن سعر كيلو السكّر يتجاوز خمسة جنيهات في السوق، وكان سعرُه بالتموين أقلّ من ذلك بكثير، وربّما لم يكن يتجاوز الجنيه الواحد، وكان المصريون يهادون بعضهم بعضاً في غالبية المناسبات بالسكّر والحلويات، لكنه الآن يصل إلى 75 جنيهاً، فتمتلئ مواقع التواصل بالشكايات والنكات من أسعاره وحال المصريين معه.

لو كانت السلطة الحالية تسير بمخطّطٍ لتخريب البلد بقطاعاته المختلفة في أقصر وقت ممكن، ما كانت لتسير بهذه السرعة، لكن هؤلاء يبدون محترفين في شيء وحيد، هو تخريب القطاع العام وتدميره بمصانعه والزراعات المعتمدة عليها من دون توقف. والمصيبة أنّهم يظنون أنّ هذا هو الحل لمشكلات البلاد وأزمتها المالية والاقتصادية، وكأنّهم يحلمون باليوم الذي يستيقظون فيه على بلدٍ بلا قطاع عام وحكومة من دون مسؤوليات عن كلّ هذه المصانع التي أنشأها المصريون بعرقهم ودمائهم عقوداً، ضمن سياسة إحلال الواردات التي اتبعتها البلاد في عقدي ما بعد الاستقلال الصوري عن المستعمر، لنستيقظ في القرن الحادي والعشرين ونحن أكثر تبعيّة للمستعمرين مما كنّا عليه، عندما كانوا يحكموننا بشكل مباشر.

العجيب أنّ بعض هؤلاء يتصرّفون بمنطق السارق الجشع الغبي الذي يصرّ على ألّا يترك للبقرة ما تقتات عليه، وفي الوقت نفسه، يريدها أن تنتج له يومياً الكمية نفسها من الحليب، هكذا يفعلون مع المزارعين لا يقدّمون لهم الدعم الكافي، ولا حتى يتركونهم لآليات السوق الحرّ، بيعاً وشراء، ويحتقرونهم في الدراما وفي التعيينات الحكومية، ثمّ يريدونهم أن ينتجوا ما يغني البلاد عن الاستيراد، فإلى هؤلاء نقول: إذا أردتَ أن تحلب البقرة، عليك أن تقدّم لها ما يبقيها على قيد الحياة وقادرة على إنتاج الحليب، وإلا فستموت جميعها.