وجوه الأسلاف.. تماثيل "عين غزال" وبدايات الاستيطان الزراعي الشرقي

وجوه الأسلاف.. تماثيل "عين غزال" وبدايات الاستيطان الزراعي الشرقي

08 نوفمبر 2015
من تماثيل "عين غزال" في الأردن (Getty)
+ الخط -
أفكِّر بالجفاف الهائل الذي تعرفه هذه البلاد. السماء زرقاء جداً. لا شيء يحول بيننا والزرقة العميقة. لا شيء يحول بين أعيننا وأصغر نجمة مرئية في القبَّة السوداء. عادت إليّ، مذ عدت إلى دياري، القدرة على الرؤية لأبعد مدى ممكن. صار بوسعي أن أرى السماء العارية بلا أدنى عائق. هذا ليس مديحاً في الثلث الأخير من شهر تشرين الأول (أكتوبر). سماءٌ عارية، بالإمكان رؤية أصغر نجمة فيها، تعني سماءً بلا غيمة. سماء بلا احتمال مطر.

الجفاف هنا له اليد العليا. الحرارة في حدود الثالثة والثلاثين. هذه حرارة صيف وليست الحرارة "الطبيعية" للثلث الأخير من شهر تشرين الأول. كانوا يقولون، عندنا، أن شهر أيلول (سبتمبر) "ذيله" مبلول بالشتاء. لا شتاء حتى الآن. التغيّر المناخي عالمي، ولطالما حدثَ وغيَّر أرضنا، وأهلها، من حال إلى حال.

فالمناخ أثَّر أكثر، ربما، من أي عامل آخر، على التجمعات البشرية، وأسهم في صياغتها. وقد يكون المناخ هو الذي جعلنا طوالاً، قصاراً، بيضاً، سمراً، سوداً، تبعاً للأراضي التي نقيم فيها والمناخ الذي يسودها. الأطوار الحضارية وليدة المناخ وتقلّباته. الثقافة والفنون، وقبل كل ذلك التأمل في الكون والآلهة والديانات، وليدة المناخ وما تترتب عليه من نتائج على أرض البشر. وبسبب تغيّرات المناخ ولد الاستيطان والزراعة والمجتمعات المستقرة التي تعيش جنباً إلى جنب.. أو تتصارع على مصادر الحياة.


أول الاستيطان
لم يعرف العمال الأردنيون الذين كانوا يحفرون طريقاً تربط بين مدينتي عمان والزرقاء عام 1974 أنهم يدمرون، من دون قصد، جانباً من آثار أول استقرار بشريٍّ في المنطقة. رأى العمال آثاراً تكشف عنها أدوات حفرهم فتوقفوا. استدعوا مسؤولين استدعوا بدورهم مسؤولين ودوائر حكومية أخرى، في مقدمتها دائرة الآثار.

كان واضحاً أن هناك موقعاً أثرياً مهمّاً في منطقة "عين غزال" التي توقف فيها الحفر، بيد أن خبراء الآثار الأردنيون لم يكونوا قادرين على تحديد الطور التاريخي الذي ينتمي إليه هذا الموقع، الأقدم، كما بدا لهم، ممّا عرفوه من آثار أردنية سابقة، فتمت الاستعانة بخبراء آثار وعلماء إناسة ألمان وأميركيين، اهتموا بصيانة الموقع، وآثاره، ودرسوا سياقه الحضاري. فجاءت تأكيداتهم أن موقع "عين غزال"، الذي اكتشفت فيه تماثيل لأجساد بالحجم الطبيعي تقريباً، ذات وجوه غريبة التكوين، ينتمي إلى أول الاستيطان البشري في المنطقة.

يقدّر علماء الآثار أن قرية عين غزال الأثرية شيدت نحو 7200 عام قبل الميلاد، أي في ما يعرف بالطور الحجري الحديث السابق على معرفة الإنسان للفخار واستخدامه في حياته اليومية. ويبدو أن التغيّرات المناخية التي طرأت على المنطقة وتراجع الغطاء النباتي جعل الإنسان يتجه إلى جعل النبات الذي يستخدمه في طعامه اليومي حقيقة دائمة، يزرعها ويحصدها ويخزنها للمواسم التي تنقطع فيها. وهذا اقتضى الإقامة في أماكن مستقرة وبناء بيوت ومعابد وتربية حيوانات. لم يكن سكان عين غزال وحدهم من انتقل من حياة الصيد إلى الزراعة والاستيطان بجانب نهر الزرقاء، فقد فعل ذلك، في الوقت نفسه، الذين كانوا يعيشون بالقرب من مدينة أريحا التي تبعد عنها نحو 30 ميلاً إلى الغرب.

ازدهرت الحياة في عين غزال فكبرت المستوطنة سكاناً وأرضاً وصارت تتمدّد على نحو 40 هكتاراً، وهذا ضعف ما كانت عليه بلدة أريحا المعاصرة لها، بل لعل هذا التوسع العمراني والزراعي هو الأكبر في العصر الحجري الحديث كما تؤكد الدراسات المكرسة لعين غزال. ساعد المستوطنة ـ البلدة على الاستمرار وجود نهر الزرقاء وعين الماء التي يسمى الموقع كله باسمها، إضافة إلى الأرض الخصبة المحاطة بتلال. هكذا أمكن للبلدة، أو المدينة في مقاييس عصرها، أن تستمر من عام 7200 ق م إلى 5000 ق م، وأن يبلغ عدد سكانها نحو 3000 نسمة. بنيت بيوت عين غزال على نحو مستطيل، وهي مشيدة بالحجارة والجصّ والطين. كانت أرضيات البيوت مفروشة بحجارة وحصى مدكوكة فوقها طبقة رقيقة من الجير. وكانت الجدران والأرضيات مدهونة بصباغ أحمر لماع.

عثر في الموقع على بيوت مكوَّنة من طابقين، الأول لتخزين المؤونة والثاني للمعيشة والنوم، وهذه بيوتات نخبة البلدة على ما يبدو، إذ إن بيوت عامة الناس مكوَّنة من غرف مستطلية يراوح حجم الواحدة منها بين عشرة وخمسة عشر متراً.


دمى للأطفال
من بين المكتشفات المثيرة التي عثر عليها المنقبون في موقع عين غزال 200 تمثال لا يتجاوز طول الواحد منها 2.5 بوصة مصنوعة من الطين والجصّ تمثل ماشية (أبقاراً، عجولاً)، يرجِّح أنها صنعت كدمى للأطفال، أحدها يمثل كلباً قد يكون هدية من أهل لأحد أطفالهم. هذا يعني أن حياة سكان عين غزال تجاوزت العيش الصرف، عندما يتمُّ إشباعه، إلى ما يليه عادةً: اللعب، الفن، التأمل في الوجود.

ولكن التركيز على الأبقار في الدمى قد يعكس بعداً دينياً. كان على تماثيل الماشية هذه جروح وندوب ذات طابع رمزي، طقسي.  يقول مكتشف تماثيل "عين غزال" غاري رولفسون، الخبير الأميركي في المواقع الأثرية الأردنية، إن تقديس الأبقار، أو عبادتها، كان شائعاً بين سكان المستوطنة. أما برايان فاغان، عالم الإناسة والآثار الذي درس تأثير المناخ على التطور الحضاري، فيعزو دفن سكان عين غزال (وأريحا) بعض موتاهم تحت أرضيات بيوتهم إلى نوع من تقديس الأسلاف، حيث كان الأهالي يشكلون ملامح موتاهم فوق جماجمهم بجصٍّ قبل دفنهم، في ما يمكن اعتباره تذكاراً تقليدياً للأسلاف الذين "غدوا أوصياء على الأرض ووسطاء بين القوى المتقلبة للبيئة، ذلك العالم فوق الطبيعي، وعالم الأحياء".

وفي هذا السياق، يوافق غاري رولفسون، الآثاري الذي جعل تماثيل عين غزال تتجوّل في معارض حول العالم، على صلة هذه التماثيل ودفن بعض المتوفين تحت أرضيات بيوت ذويهم، بتقديس الأسلاف.

كانت تلك التماثيل بلا رؤوس. لقد قطعت ودفنت تحت أرضيات البيوت، كأنَّ هذه الشعيرة تعني التخلّص من القوى السحرية التي أسكنها فيها أحد شامانات عين غزال. أتساءل، هنا، عن الرابط الذي يصل بين الدمية/ التمثال الجصيِّ والهياكل العظمية التي وجدت مدفونة في حالة قرفصة بلا جماجم أيضاً. ما الرابط؟ يخطر لي أن الأمر يتعلق بالوجه بوصفه هوية إنسانية. الوجه/ الرأس كان يحتفظ به سكان عين غزال بعيداً عن الأجساد الميتة. الوجه هو الذي رأيناه منحوتاً بالجصِّ.

هو الذي انصبَّ شغل نحات عين غزال عليه، فيما ترك باقي الجسد يرتع في نوع من الجهالة العضوية. فلا تفاصيل ولا تقاطيع ولا هوية جنسية له. كان الاعتقاد السائد أن سكان عين غزال، الذين سبقوا المصريين في الاعتبار الديني للماشية، يدفنون كل موتاهم تحت أرضيات بيوتهم. هذا اعتقاد فنَّده رولفسون، المتخصص في أوابد هذا الموقع بالذات. الذين كانوا يدفنون تحت أرضيات بيوتهم هم الوجهاء. فعامة الناس كانوا يدفنون بعيداً عن البيوت.


اقرأ أيضاً: عين حوض.. شاهدة على مأساة النكبة

دلالات

المساهمون