جوائز تفقد سُلطتَها

جوائز تفقد سُلطتَها

08 مارس 2024
سيمونا تاباسْكو في "كانّ 2023": بريق السينما وإغواؤها (نيلسون برنار/Getty)
+ الخط -

 

حين أُعلن، في حفل اختتام مهرجان دولي كبير، عن الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى، وكان إيرانياً، تبادل عديدون نظرات استغرابٍ، وصلت إلى حدّ الاستهجان، وسرت تساؤلات عن كيفية نيل فيلمٍ، لا يتمتّع بعناصر بصرية أو سردية لافتة للانتباه، هذه الجائزة. تمتم بعض هؤلاء بجملة قصيرة: "جائزة سياسية تتعلّق بمحرّمات اجتماعية وجنسية". تهمة وُجِّهت إلى عددٍ من الجوائز الممنوحة للسينما الإيرانية، ولغيرها، ليس فقط في مهرجانات دولية، كبرى وصغرى، بل في مجالات أخرى أكثر انتشاراً وشهرة لدى المختصين بالسينما وعامة الجمهور، المهتمّ وغير المهتمّ أيضاً، بالسينما كفنّ، "أوسكار" مثلاً.

 

مبالغة في الاهتمام

يُثير اقتراب توزيع جوائز "أوسكار" اهتماماً مبالغاً به، أولاً من المهتمّين بالسينما، ومن آخرين فضوليين لمعرفة الفيلم الفائز، الذي ستتاح لهم مشاهدته بالتأكيد، إما مُقرصناً أو عبر منصات، إن لم تتوفر قاعات السينما لديهم. تفتخر دول صغيرة بترشيح فيلمٍ لها لهذه الجائزة، مهما كان مستواه الفني متواضعاً، ما يُشكّل أول التساؤلات عن مدى أهمية هذه الجائزة. وبينما ينحسر الاهتمام العالمي، والعربي خاصة، عن جوائز مماثلة في أوروبا، وأهمّها "سيزار" أفضل الأفلام الفرنسية، تبقى الجائزة الأميركية أهمّ، بنظر معظم المتابعين من سينمائيين وغيرهم.

هل هذا لظنٍّ بقيمة "فنية" للأفلام الفائزة، أم مجرّد تعلّق بأجواء مبهرة برّاقة، تُتيحها السينما عامة بنجومها، وفضول لمعرفة أهم ما أنتجته السينما الأميركية المسيطرة، ومعها بضعة أفلام لدول أخرى تُعتبر محظوظة لتمكّنها من نيل حظوة دخول البلاط الملكي؟

هذا الفوران الإعلامي، الذي يصاحب جوائز "أوسكار"، لا يتعلّق بالسينما كفن فقط.

ففي تقارير لهيئاتٍ رسمية فرنسية، يُمكن ملاحظة، بعيداً عن الجانب الفني، أنّ صناعة السينما في تقدّم مستمر، وتمثّل قطاعاً ذا ثقل اقتصاديّ كبير، عالمياً أو في بلدانٍ، كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والهند وكوريا. تمنح أرقامٌ صورةً واضحة عن هذا البُعد: عام 2019 مثلاً (إنّه المقياس قبل أزمة كورونا)، وصلت القيمة المالية لشبّاك التذاكر العالمي إلى 42 مليار دولار أميركي. في فرنسا وحدها، تمّ جني 1،4 مليار يورو كإيرادات، عام 2018. كما أظهرت دراسة، أجرتها وزارتا الاقتصاد والثقافة، أنّ الثقافة بمعناها الواسع تمثّل بشكل عام حوالي 3،2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني السنوي، أي أكثر بـ7 أضعاف من صناعة السيارات. هذا للمقارنة فقط.

إذاً، تُشكّل السينما عنصراً قوياً، ليس فقط في التنمية الثقافية، بل الاقتصادية أيضاً. لكنْ، هل للجوائز العالمية، كـ"أوسكار" و"سيزار" و"بافتا" وغيرها، دور في زيادة الإقبال على فيلمٍ، لمجرّد فوزه بإحداها أو ببعضها؟ لعلّ الفائدة تمسّ الأفلام "الصغيرة" أكثر، وتلك التي لا تجذب جمهوراً شاباً عادةً، فتتيح لها الجائزة انتشاراً محليّاً وعالميّاً إضافياً. أما تلك المتمتّعة بإنتاجات ضخمة، التي لها جمهورها أساساً، فالبعد الاقتصادي لجوائز "أوسكار" أقلّ أهمية، إذْ تكون الأفلام الفائزة أو المرشّحة حقّقت، أحياناً عدّة، المطلوب (وأكثر) من الإيرادات والانتشار العالمي قبل الترشيح: مثلاً، حقّق "باربي" (2023)، لغريتا غرويغ، أكثر من 630 مليون دولار أميركي في السوق الأميركية قبل ترشيحه.

أمّا الجوائز الأوروبية، فيتأثّر بها نوع معيّن من الأفلام والجمهور، الذي يكون عامة محدوداً، ينتمي إلى الطبقة الوسطى المثقّفة أو متوسطة الثقافة، ومعدل العمر مرتفع نسبياً. مقارنة التردّد على فيلمٍ فائز مع أفلامٍ أخرى، مماثلة في مستواها لكنّها لم تفز، تظهر الفرق ضئيلاً. مثلاً: "ليلة 12" (2022) لدومينيك مول لم يُشكِّل فوزه العام الماضي بـ"سيزار" أفضل فيلمٍ تأثيراً ملحوظاً على عدد البطاقات المبيعة، الذي لم يتجاوز نصف مليون. مثلٌ آخر: "تشريح سقوط" (2023) لجوستين تريّيه، الفائز في دورة العام الماضي من مهرجان "كانّ" بـ"السعفة الذهبية"، كان الإقبال عليه في 5 أشهر قليلاً، مقارنة بما يحقّقه في أسبوع واحد فيلم أميركي ذو إنتاج ضخم، يجذب الشباب خاصة.

 

 

طفرة أيديولوجية

رغم هذا، لا يُمكن إنكار أنّ لهذه الجوائز أهميّتها الكبيرة في دعم صورة في الخيال الجمعي للسينما ونجومها، وتوفير الأجواء اللازمة لها كفنّ يستدعي ويعيش جزء كبير منه على الاستعراض. أيضاً، يُشار إلى أنّ الجوائز تهمّ نوعاً من الجمهور، يرتاد السينما والمسرح، ويقرأ، ويعتقد في السينما كفنٍ. فعندما كان منح "السعفة الذهبية" في "كانّ"، و"الدبّ الذهبي" في برلين وجوائز "سيزار" وغيرها، ضمانة تقريباً بأنّ الفيلم يستحق المُشاهدة، وهذا بالتأكيد جيد، أو جيد جداً؛ لم تعد المكافأة اليوم ضمانة، إطلاقاً، وفي بعض الحالات، تكون ضماناً بأنّ الفيلم مطابق تماماً لكلّ ما ينفّر المشاهدين.

فالمهرجانات الكبيرة (والصغيرة التي تُقلّدها)، ومعها الجوائز الوطنية ("أوسكار"، "سيزار"، "بافتا"، وغيرها)، لم تعد تسعى غالباً إلى مكافأة أفلام عظيمة، بل أفلام تبدي (ويُفضّل أنْ يكون فيها شيء من التميّز، لكنّ هذا ليس ضرورياً إطلاقاً) أفكار الصوابية السياسية والأخلاقية، وأفكار عالم المال والاستعراض (شو بزنس). هذه أفكار الرأسمالية المعولمة الجديدة، التي تسعى إلى إلغاء الحدود (فلا حدود بين البلدان، ولا حدود بيولوجية يوجد بموجبها نوع جنسي)، وإلى توحيد العالم (الأخلاق والسلوكيات نفسها في كلّ مكان، تلك الموجودة طبعاً في الغرب الحديث).

نتيجة هذه الطفرة الأيديولوجية في المهرجانات والجوائز كامنةٌ في فقدانها الكثير من سلطتها، إذْ ينشط جيش من العقول الملتزمة، أو المتوافقة مع السائد السياسي والأخلاقي، ويتضاءل عدد أصحاب العقول الحرّة، وتُكافَأ أفلام يمكن استخدامها لمصلحة هذه الأيديولوجية العالمية: على مخرج إيراني مثلاً إظهار أنّ المجتمع الإيراني فظيع، ما يعني أنّ مجتمع الغرب أفضل بكثير، لتكون له فرصة لفت الاهتمام؛ وعلى العربي إظهار المجتمع الذكوري وحقوق المرأة المهضومة؛ وعلى الغربي أنْ ينتقد ليس ما هو عليه الغرب اليوم، لكن الآثار التي لا نزال نجدها فيه من ماضٍ يعود إلى زمن كانت فيه أوروبا ديمقراطية، ولم تكن الثقافة مختلفة كثيراً عن ثقافة بقية العالم.

بالتأكيد، هناك استثناءات في تلك الجوائز، ويمكن للمرء التساؤل بشأن بعضها: هل جاءت أحياناً من عدم إدراك "الهيئات الثقافية"، التي تُفسّر الفيلم وفقاً لشبكتها الأيديولوجية، فتكافئ العمل الذي، في الواقع، ليست له أي علاقة مع هذه الشبكة؟ مثلاً، يمكن افتراض أنّ "مثلث الحزن" (2022) للسويدي روبن أوستلاند، الفائز بـ"السعفة الذهبية" في "كانّ" قبل عامين، نَقْدٌ للتراتب الاجتماعي، وهذا لا يزعج أحداً؛ بينما لم يقتصر الموضوع على هذا الجانب، والفيلم في الواقع "سيئ" التفكير تماماً.

في هذه الظروف، تُطرح تساؤلات: ما فائدة المهرجانات والجوائز؟ مساهمتها الاقتصادية منخفضة، فالأفلام التي تُدرّ دخلاً كبيراً لمنتجيها ليست "أفلام مهرجانات". وإذا اختفت مساهماتها الفنية، ماذا يبقى: بريق السينما وإغواؤها، إذْ تُثير صور الفنانات وملابسهنّ، وقصص أهل السينما، اهتمام الصحافة ذات الانتشار الواسع أكثر من الفيلم. هذا مهم على أي حال، من وجهة نظر تجعل السينما أداة تأثير لنشر الأفكار السائدة، وإعادة ترديد الأفكار الأيديولوجية.

قريباً، ستتعيّن على الجوائز السينمائية، بأنواعها كلّها، استعادة مهنتها الفنية، أو تختفي (ومعها السينما أيضاً). فالمهمة الفنية للسينما، كالأدب، لا تتمثّل في نقل خطابٍ وأفكار (الإرث في الإسلام مثلاً)، ووضعها في حكاية، فهذا موضوع يصلح مقالة صحفية. مهمة السينما التعبير عن حقيقة الحياة، وكشف جوانب من الحياة الإنسانية، لا يمكن كشفها إلّا عبرها.

المساهمون