الجوائز السينمائية: قُبلة حياة لأفلامٍ لا تُباع

الجوائز السينمائية: قُبلة حياة لأفلامٍ لا تُباع

11 مارس 2024
ستانلي كوبريك: أفلامه صامدة في الزمن من دون تتويج (Getty)
+ الخط -

الجوائز السينمائية: إفامة أم مجرّد "بيزنيس"؟

 

يعرض المخرجون أفلامهم أمام لجان أرستوقراطية سينمائية، منتقاة من بين زبدة المهنيّين، للحصول على الاعتراف بالتفوّق والعبقرية. كلّ فيلمٍ مُتوّج يُحقّق مكاسب كثيرة، منها:

أولاً: تحظى الأفلام التي تحصل على الجوائز بتغطية إعلامية كثيفة، خصوصاً عندما يُحرِّر منتجوها بلاغاتٍ، تستنسخها الصحافة الفنية، التي لا تُشغِّل نقاداً سينمائيين.

ثانياً: تجعل الجوائزُ الأفلامَ مشهورة، حتى لو لم تُشَاهَد. يردّد كثيرون أنّ الفيلم رائعٌ، وتحفة، خصوصاً عندما يكون مخرجه مشهوراً، ولا يُذكر أي سطر عن أحداث الفيلم، أو فضاءاته، وأمزجة شخصياته، وبنيته الحكائية. تعيش الأفلام، الفائزة بجوائز "أوسكار" بالجملة، عمراً طويلاً.

ثالثاً: تبني الجوائز شرعيةَ المبدعين السينمائيين، قد تؤدّي دوراً كبيراً في ضمان مستقبلهم المهنيّ.

رابعاً: قد يجلب صدى الجوائز تمويلاً مستقبلياً للمخرج أو السيناريست أو الممثل في الفيلم المُتوّج.

خامساً: عملياً، تمنح الجوائز مصداقيةً فنية وتداولية للحاصلين عليها. لذا، صار عرض فيلم أفريقي أو عربي في مهرجانات أوروبية معياراً للنجاح، حتّى لو لم يُثمِر ذلك ربحاً مالياً. المهم صورة المخرج مع الجائزة. لهذا مغزى كبير، يُخفِّف كلّ المعاناة التي رافقت كتابة الفيلم، والبحث عن ميزانيته، ومحنة تصويره.

سادساً: يُعتَبر حضور حفلة جوائز، والسير على بساطٍ أحمر، مُنجزاً كبيراً للسينمائيين، عشّاق الأناقة والـ"سيلفي". يصير هذا أمتع، عندما تنتهي الحفلة بعشاء خمسة نجوم. لا يعكس هذا مُنجزاً سينمائياً، لكنّه يدغدغ النرجسية البشرية عامة. هذا يجعل التلفزيون يشتري حقوق عرض الحفلات بمبالغ كبيرة، لتسلية الذين يُشاهدون من بعيد.

تشبه جوائز آخر العام السينمائي توزيع نتائج الموسم الدراسي. تكافئ امتحانات اللجان عباقرةَ العام. هذا امتحان مُرهِق، يجتازه السينمائيون أمام اللجان، التي يُفترض بها أنْ تكتشف الموهبة، قبل أنْ تحقّق نجاحاً جماهيرياً، لأنّ المخرجين والمنتجين يؤخّرون إطلاق العروض التجارية لأفلامهم في القاعات، على أمل الحصول على جوائز تُعرِّف بها.

تساهم المهرجانات والجوائز في تنظيم التنافس السينمائي. لذا، لا تزال الجوائز مُفيدة لمستقبل من يحصل عليها. يتسابق السينمائيون أمام لجان الانتقاء الأول في المهرجانات، لتتأهّل أفلامهم إلى الدور الثاني، فالتنافس أمام لجان التحكيم.

بعد هذا الماراتون العالمي، يُختَتم الموسم السينمائي بتوزيع الجوائز السينمائية الأبرز في صناعة الفن السابع في العالم: "غولدن غلوب" الأميركية، "أوسكار" الهوليوودية، "سيزار" الفرنسية، "بافتا" البريطانية، "غويا" الإسبانية. هذه الجوائز تقييمٌ ختامي يمهّد لافتتاح الموسم السينمائي للعام الموالي. يُشبَّه موسم الجوائز بالحصاد. حالياً، "أوبنهايمر" (2023) لكريستوفر نولان حصل على 13 ترشيحاً لـ"أوسكار". يُفضَّل قول "قنص الجوائز"، لأنّ الجوائز أندر من السنابل، التي تُحصَد بالجملة.

يناسب التقويم النهائي اللحظات الختامية المجيدة في حياة كلّ فنان. تشبه جوائز "أوسكار" نهائيات كأس العالم. بها، يتمّ الحسم، قبل إعلان أفلام الدورة الموالية من مهرجان "كانّ"، كمقدمة لماراتون سينمائي جديد.

ممن تتشكّل لجان التحكيم السينمائية؟

من شخصيات مهنية تُمارس المهن، وتراكم مُنجزاً وخبرة في مجال السينما. يُمكن تفهّم وجود ممثل أو مخرج في لجان تحكيم، عندما يكون لديه وعي مفاهيمي بالفنّ. أمّا أنْ يكون لديه وعي فطري، ينكشف حين يتحدّث خمس دقائق متواصلة، فهذا يُضرّ بالمحكَّم عليهم، ولن يسلّموا للمحكمة، وهم على يقين بأنّهم أدرى منه.

مثلاً: كيف يُمكن لعضو لجنة لا يعرف القطع (Ellipse) أنْ يُقرِّر جائزة إخراج أو مونتاج؟

يُطلب من هذه اللجان قياس الإنجازات: ما معايير القياس والتقويم؟ ما منهجية اتخاذ القرار؟ ما شروط تكوين رأي عن فيلمٍ، وإصدار حكم جمالي عليه، تترتّب عنها جائزة؟ هل يمكن للجنة سينمائية أنْ تحكم على مواهب مخرج، من فيلمٍ واحد؟

في كلّ الحالات، ومهما كانت الأجوبة، تُقيِّم اللجان السينمائية إصدار حكم على العمل الفني، وتُقرّ بالمهارات الفكرية والعملية لمبدعه. يُعتَبر التصويت لعمل فني اعترافاً بتفوّقه على بقية الأعمال المُحكَّم فيها.

 

 

يُفترض بالتحكيم أنْ يُجري التقويم من طرف جهة محايدة. هذه لجان أرستقراطية، تمارس التصويت الديمقراطي. في جوائز "أوسكار"، يُصوّت آلاف الأعضاء إلكترونياً (كلّ عضو يُصوِّت في فئة واحدة)، من دون أنْ يلتقوا ليتوافقوا. هذا جيّد للتنافس الديموقراطي الفني.

يُفترض بأسلوب التقويم الديمقراطي أنْ يُضعف الانحياز والـ"كولسة"، اللذين ربما تعرفهما اللجان الصغيرة. لهذا سوابق. بحسب ميغيل دي ثربانتس: "لا جدوى من الطمع في الجائزة الكبرى، التي تعُطى بمحاباة، بل على الكاتب أنْ يتوقّع الحصول على الجائزة الثانية، التي تعطى بعدل، وكذلك الجائزة الثالثة. بذلك، فالحاصل على الجائزة الأولى هو، في الحقيقة، حاصل على الجائزة الثالثة من حيث الاستحقاق" ("دون كيخوته"، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار المدى، ط. 3، دمشق، 2009، ص 662).

كيف يُفترض بالنقد السينمائي أنْ يتعامل مع لجان الجوائز السينمائية، ونتائجها؟ هل تحدّد اللجان الفيلمَ الأفضل للنقاد؟ ما دور السلطة المعرفية في التحليل الفيلمي، الذي يُقرّر مصير الجوائز؟

سبق لعدد من أفلام "سوبر هيروز" أنْ حصلت على جوائز، من دون أنْ يعتبرها النقاد أفلاماً حقيقية. في المقابل، هناك أفلامٌ لم تحصل على جوائز، اعتبرها النقاد تُحفاً سينمائية، كأفلام ستانلي كوبريك وألفريد هيتشكوك، اللذين أنجزا أفلاماً عظيمة، صمدت في الزمن، من دون أنْ تُتوَّج.

المجد أنْ يحصل الفيلم على الجوائز، ويُحقّق مداخيل كبيرة في شبّاك التذاكر، كـ"جوكر" (2019) لتود فيليبس. حين يفشل فيلم في القاعات السينمائية، يجد عزاءه في لجان المهرجانات والمسابقات. الجوائز قُبلة حياة للأفلام التي لا تُباع. أمّا التي تصمد في شبّاك التذاكر، فتملك عموداً فقرياً لتقف وتنتشر بقوّتها الذاتية.

يليق بأفلامٍ تنجح جماهيرياً أنْ تحصل على جوائز. ترتفع قيمة الأفلام التي تجمع بين الشرعية التحكيمية للجوائز النخبوية من جهة، والشرعية الجماهيرية في شبّاك التذاكر من جهة أخرى.

يصعب على اللجان الأرستقراطية تقرير مصير الفن، في عصر الجماهير هذا. لذلك، تبقى لشبّاك التذاكر سلطته. بغضّ النظر عن الجوائز، الفيلم الحقيقي يُمْكن مشاهدته أكثر من مرة، من دون استنفاده. يقول مثل أفريقي: "الحقيقة مثل قصب السُكّر، حتى لو مضغته طويلاً، سيظلّ حلواً".

يمكن للجوائز أنْ تصنع شهرة فيلم، لكنّها لن تُحسِّن طعمه.

المساهمون