"الدب الذهبي" لوثائقي مجدداً: "داهومي" ومحاولة تبييض ماء الوجه

"الدب الذهبي" لوثائقي مجدداً: "داهومي" ومحاولة تبييض ماء الوجه

28 فبراير 2024
"داهومي": استعادة منقوصة لحقّ منهوب (الموقع الإلكتروني لـ"برليناله 74")
+ الخط -

للعام الثاني على التوالي، يكون الفوز بالجائزة الأولى من نصيب فليم وثائقي في المسابقة الرئيسية لـ"مهرجان برلين السينمائي". إذْ أعلنت لجنة تحكيم المسابقة، في دورته الـ74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024)، برئاسة الممثلة الكينية لوبيتا نْيونْغو، فوز الوثائقي "داهومي"، للسنغالية ــ الفرنسية ماتي دِيوب، بأرفع جوائز المهرجان، "الدبّ الذهبي لأفضل فيلم"، التي مُنحت، في دورة العام الماضي (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023)، للوثائقي أيضاً، "على متن أدامان"، للفرنسي نيكولا فيليبير ("العربي الجديد"، 3 مارس/آذار 2023).

هذا يطرح أسئلة كثيرة، أُثيرت مراراً، حول سبب تنافس الأفلام الوثائقية مع الروائية الطويلة، ووجاهته، وحتّى مع الرسوم المتحرّكة، في مسابقات المهرجانات الكبرى.

تكرار منح "الدبّ الذهبي" لأكثر من وثائقي في "برليناله"، في أعوامٍ سابقة، يقود إلى نقاش حول الأنواع السينمائية المختلفة، نسبة إلى التنافس العجيب بينها وبين مختلف الأنواع، وكيفية تفرقة وحُكم وتمييز لجان التحكيم بين فنّيات وأخرى، وجماليات وثائقية خاصة، في مقابل أخرى روائية بحتة. المُثير للانتباه، أنّ غالبية المهرجانات الكبرى، التي تعتمد هذا الخلط، السائد منذ أعوام عدّة، لديها أكثر من قسم ومسابقة خاصة بالأفلام الوثائقية، القصيرة والطويلة، من دون غيرها. الأغرب، أنّه، رغم اتفاق وميل أذواق لجان تحكيم عالمية إلى السينما الوثائقية، تأتي أفلام هذه السينما، ومهرجاناتها طبعاً، في ذيل الاهتمامات، حتى من أهل الصناعة أنفسهم.

على عكس نيكولا فيليبير، المُكرّس في السينما الوثائقية منذ عقود، تخوض ماتي ديوب تجربتها الوثائقية الأولى، في "داهومي"، بعد التقاطها خبراً صحافياً، نسجت منه أحداث فيلمها، البسيطة جداً، وغير المتشعّبة والمتكلّفة، مع أنّ الأحداث، على قلّتها، تحمل في طياتها تساؤلات ملحّة ومتطلّبة لإجابات آنية وتحرّكات فورية، في المستويات كلّها. في "داهومي"، يحضر التاريخ، مع السياسة والثقافة. الحضور القوي، وقيام البنية على السرقات الأثرية، ونهب تراث الشعوب وفنونها على أيدي المُستعمرين، وكيف أنّ جرائم الماضي لا تزال حاضرة، ولن تموت، بل تطغى على الحاضر، وتأبى الاندثار.

تبدأ ديوب فيلمها من متحفٍ فرنسي، للمتابعة الدقيقة لمدى الاهتمام والحرص والحذر في معاملة تماثيل خشبية وبرونزية، من مُتخصّصين. يتبيّن لاحقاً أنّ الأمر ينتهي بها، ليس إلى ترميم أو تجديد أو عرض خارجي، بل إلى شحنها في صناديق خاصة، تحملها إلى وجهتها الأخيرة، الأصلية (دولة بينين)، بعد نحو 130 عاماً من وجودها غير الشرعي على الأراضي الفرنسية.

تدريجياً، يُعرَف أنّ هذه تماثيل تنتمي إلى كنوز مملكة "داهومي" السابقة، أي "دولة بينين" حالياً (غرب أفريقيا)، وأنّ منحوتات خاصة بملك "داهومي" سرقها الجيش الفرنسي عند غزوه المملكة واحتلالها عام 1890، وأنّ تلك القطع تُستعاد، وباتت في طريقها إلى المتحف الرئاسي في العاصمة "بورتو نوفو".

عبر لقطات صامتة تستعرض ما يجري، تكشف ديوب مدى فرحة شعب "بينين" وفخره واعتزازه، إزاء استعادة تلك القطع الأثرية، القليلة جداً والمنهوبة، وما تمثّله له، ولتراثه وثقافته. لقطات للشوارع، وفيها احتفالات صاخبة وأناس كثيرون مصطفّون على جوانبها، بانتظار مرور الموكب؛ رقصات أفريقية احتفالية، بكلّ بهرجتها وزخارفها؛ عناوين متفاخرة في الصحف. ثم رصد وصول القطع الفنية إلى متحف القصر الرئاسي، وإطلاق أعيرة نارية شرفية، احتفالاً بالمناسبة، وعلى رأسها عودة أحد أهم التماثيل الخشبية في مملكة "داهومي"، لملكها وزعيمها "بيهانزين". أخيراً، رصد توافد كبار رجال الدولة في "بينين"، ورؤساء أفارقة، لحضور الحدث المشهود.

 

 

للنجاة بالفيلم من السقوط في فخّ الرصد الريبورتاجي البحت، وبثّ بعض الروح والحيوية، وحتى الدراما، تستعمل ديوب التعليق الصوتي لتمثال الملك، بين حين وآخر، للتعبير عن حاله، وعمّا يشعر به في رحلة عودته إلى الوطن ـ أرض مملكته السالفة، وبعدها. من ناحية أخرى، تستعرض نقاشات طلاب جامعيين عن عودة التماثيل، ما يزيد من وعينا أكثر بالقضية المطروحة، وطرحها جانباً آخر مُغايراً، ربما نقيض ما يظهر من فرح وسعادة وفخر، إذ يُعبّر طالبٌ، بانفعال شديد، عن إحباطه، لأنّ الأمر استغرق 127 عاماً لإعادة 26 قطعة فقط، من أصل 7000 مسروقة؛ وكيف أنّ هذا سيستغرق مئات السنوات قبل عودة مزيدٍ من القطع.

آخرون يتحدّثون عن أنّ هذا مُجرّدَ تبييضِ فرنسا سُمعتها الاستعمارية في أفريقيا، ومحاولة خبيثة لتهدئة الأمور الثائرة ضدها حالياً، المُناهضة لأدنى وجود فرنسي في مستعمراتها السابقة في تلك القارة. هناك من يؤكّد عدم جدّية فرنسا وصدقها، بعد أفعالها ببلدهم، المتمثّلة في سرقة ودمار وقتل، ومصادرة تراث وفنون، ولغتهم أيضاً، التي أضحت فرنسية.

تلك طريقةُ ديوب في الإشارة إلى رأي شبابي جامعي متعلّم ومثقف في "بينين". لكنّ سؤالاً حقيقياً يُطرح: هل من أهمية لأصواتهم، أو ضرورة للتوقّف عند ما يقولونه، والتأمّل به؟ أم أنّ الحاصل فعلياً مواءمات وتسويات سياسية، فقط؟

رغم حُسن تنظيمها وضرورتها، والابتعاد عن الخطابية والمباشرة، تنطوي مناظرة الطلاب في "داهومي" على تكرارٍ؛ كما مع لقطات صناديق تُحمَّل وتُفرّغ، إذْ تسير بوتيرة بطيئة بعض الشيء. كان يُمكن تفادي التعليق الصوتي، وتضخيم نبرة الراوي وتشويهها، فتُصبح غير بشرية. ورغم مثالب أخرى هيّنة، فذكاء اختيار الفكرة واستعراضها بهذا الشكل، وطرح وجهات نظر أخرى، يُؤكّد ضرورتها وأهميتها، ويثير أفكاراً وتساؤلات وضرورات كثيرة، مُلحّة جداً، ليس فقط فيما يتعلّق بـ"دولة بينين"، واستعادتها جزءاً قليلاً من تراثها الفني والأثري، بل أيضاً بالشعوب الأخرى، خاصة في أفريقيا، التي تملأ كنوزها خزانات معظم متاحف الغرب، التي (الكنوز) لو عادت يوماً إلى بلادها الأصلية، لأغلقت متاحف عدّة في الغرب، من دون أدنى مُبالغة.

المساهمون