تيسير إلياس: أن أعزف على العود مرّةً

18 اغسطس 2024
أتاحت لي مدينة الناصرة فرصاً ما كنت لأحظى بها في مكان آخر (من الفنان)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **البداية المبكرة والبيئة الداعمة**: بدأ تيسير إلياس مسيرته الموسيقية في سن الثامنة بعزفه على العود في معهد محمود درويش، مستفيداً من بيئة موسيقية بفضل والده.

- **التعليم الموسيقي والتطور الفني**: تلقى تيسير تعليمه الموسيقي في معهد كميل شجراوي ومدرسة كارم مطر، حيث تتلمذ على يد إميل بشارة، ودرس في كونسيرفتوار بيت الموسيقى، محققاً علامة 100% في امتحانات الثانوية العامة.

- **الإنجازات والمشاركات الموسيقية**: شارك تيسير في مسابقات ومهرجانات موسيقية كبرى، وحاز على جوائز، وقدم أداءً مميزاً مع الفنان مارسيل خليفة في مهرجان جرش.

فوجئ الجمهور المحتشد في مسرح معهد محمود درويش في مدينة الناصرة الفلسطينية بطفل اسمه تيسير إلياس لم يتجاوز عمره الثماني سنوات يحمل عوداً صغيراً يتناسب مع جسده النحيل. دُهش الحضور حين بدأ العواد الطفل في عزف مقطوعة "البنت الشلبية" للأخوين رحباني، بثقة وإتقان، وضجت القاعة بالهتاف والتصفيق، وذاق الطفل - للمرة الأولى - طعم الاستواء على خشبة المسرح، والعزف العلني أمام جمهور متذوق لا يتأخر رد فعله تجاه ما سمع.

كان الموقف طاقة تشجيعية دافعة إلى استمرار الطفل تيسير إلياس في رحلة التحصيل الموسيقي التي بدأها مبكراً برعاية كاملة من والده، الذي يعمل محامياً وكاتب عدل. لكنه، في الوقت عينه، أحد أبرز هواة الموسيقى وآلة العود، ليس في الناصرة وحدها، بل في عموم فلسطين. في لقاء مع "العربي الجديد"، يكشف العازف الشاب الذي لم يتجاوز عمره 18 عاماً عن ملامح رحلته مع التعلم الموسيقي، وعن الظروف المحيطة التي هيأته لإتقان العزف على البزق والساز والرق والطبلة والبيانو، مع تخصص أول بآلة العود، ليكون أصغر "صوليست" للآلة في فلسطين.

ولد تيسير إلياس بمدينة الناصرة عام 2006، وتلقى تعليمه الأوَّلي، من صف الروضة وحتى إنهاء المرحلة الثانوية، في المدرسة المعمدانية بالمدينة. نشأ في بيئة موسيقية وفّرها والده جميل إلياس الذي يهوى الموسيقى الشرقية، كما يهوى اقتناء الأعواد النفيسة التي صنعها أعلام الصناع العرب خلال القرنين الماضيين.

يقول تيسير إلياس: "فتحت عيني على مجموعة نادرة من الأعواد الشامية والحلبية والمحلية التي جمعها أبي خلال أكثر من 40 عاماً، وبدأ إدراكي يتكون وحولي هذه التحف، فكان من الطبيعي أن أقع في حب العود. ما زلت أذكر، ولي من العمر ربما ثلاث سنوات، كيف لحق بي والدي فزعاً وأنا أركض حاملاً أثمن عودين عنده: عود عبده جورجي نحات (دمشق، 1927)، بيد، وعود ميشيل خوام (حلب، 1943)، باليد الثانية، فأنقذهما من يدي قبل لحظة واحدة من وقوع الكارثة.

حين بلغ تيسير إلياس عامه السابع، سجله والده ضمن تلاميذ آلة الكمان، إلا أن الطفل وجد في نفسه ميلاً إلى العود والإيقاع، فصارح أباه برغبته فلم يمانع. التحق إلياس بمعهد العازف والمُعلم كميل شجراوي في الناصرة، وتتلمذ عليه أربع سنوات متتاليات. يقول: "علمني أستاذي أساسيات وتقنيات العزف على الآلة، وأسرار تبادل وظائف اليدين في العزف بالريشة والعفق بالأصابع، فتأسّستُ عنده كما ينبغي، ولم تنقضِ السنوات الأربع إلا وأنا أتقن عزف لونغات سريعة ومعقدة. وفي السنة الخامسة التحقت بمدرسة (كارم مطر للموسيقى) في مدينتي، حيث تتلمذت على الأستاذ إميل بشارة في المرحلة الإعدادية، الذي كان له الفضل في انتقالي من طالب إلى عازف وإطلاقي إلى الأعلى. كان يشجعني قائلاً: حدودك السماء".

بالرغم من المستوى التقني العالي الذي وصل إليه تيسير إلياس وأمكنه من العزف أمام الجمهور، ونيل الاستحسان والإعجاب والتشجيع، إلا أنه لم يقع في فخ الرضا عن النفس أو الاكتفاء بانبهار المحيطين به. يوضح قائلاً: "في المرحلة الثانوية انتسبت لكونسيرفتوار (بيت الموسيقى) في مدينة شفا عمرو المجاورة، حيث تلقيت علومي النظرية في تاريخ الموسيقى العالمية والموسيقى النظرية ونظرية المقام، إلى جانب تعلم تقنيات العزف على آلة البيانو لدى الأستاذ فادي ديب، الذي كان له الفضل الأكبر في فتح آفاقي على موسيقات العالم وعلى التفكير الموسيقي متعدد المسارات، فصار بإمكاني أن أعزف على العود مرة دور اليد اليمنى لمعزوفة مكتوبة للبيانو، ومرة دور اليد اليسرى، وصارت لدي فكرة عن نظريات تعدد الأصوات (البوليفوني) وتوافق الأصوات (الهارموني)".

يضيف: "رافقني أستاذي إميل بشارة في التحضير لامتحانات الثانوية العامة بتخصص موسيقى بمستوى عشر وحدات من أصل مجموع 24، خمس منها في الموسيقى النظرية وخمس عملية في العزف على آلة العود، وحصلت على علامة 100% في الامتحانين. تخرجت من المعهد بعدما قدمت حفل التخرج (رسيتال)، حضره جمهور من الأهالي والمعلمين والطلاب في الكونسيرفتوار، وكان لي من العمر آنذاك 17 عاماً".

بعدما عزف إلياس على العود أمام الجمهور للمرة الأولى وهو في الثامنة، توالت عليه الدعوات للعزف، في المدرسة أولاً، ثم في مؤتمرات عقدت في الناصرة، ثم على المسارح المحلية في مناسبات الأعياد. ومع التقدم، شارك في مسابقة سنوية للعزف على آلة العود، حاز فيها الجائزة الأولى التي اعتبرها أوّل حصاد مادي يجنيه، بعد قرابة سبع سنوات من الجد والاجتهاد. كانت الجائزة كافية لدفع أقساط التعليم بالمعهد لسنة كاملة.

يقر إلياس بأنه كان محظوظاً بالبيئة الفنية التي أحاطت به في المنزل والمدرسة وفي مدينة الناصرة. يتذكر الدور الكبير لوالده صاحب الاهتمامات الموسيقية ومكتبته المقروءة والمسموعة. يقول: "رافقني أبي في تمريناتي البيتية الأولى، واهتمّ بأن أصل إلى الدرس التالي وقد طويت صفحة الدرس السابق، لأن التعليم الموسيقي مبني على تراكم المعرفة النظرية والحركية في آن، ولن تقدر أن تبلغ الدرس العاشر ما لم تهضم الدروس التسعة الأولى وتؤدّيها وكأنها جدول ضرب العدد ثلاثة".

يضيف: "كذلك لم يقبل أبي أن أبدأ بتعلم العود إلا وفي يدي أحسن عود يناسب حجمي. فكلف المُعلم الراحل كميل مويس، شيخ صناع فلسطين، بصنع عود خصيصاً لي، وكتب في بطن قصعته: رمز محبة تنتقل من جيل إلى جيل. حوى العود الصغير كل خصائص العود الاحترافي بلا استثناء، ما عدا الحجم الذي جاء مناسباً لطفل في السابعة لا يتجاوز طوله متراً واحداً. ولم يكتف والدي بذلك، بل أوصى على مفاتيح ميكانيكية لتسهيل عملية ضبط وتسوية الأوتار (الدوزان)؛ وكذلك طلب أوتاراً احترافية هي الأجود في العالم، وأرشدني كيف أدوزن الأوتار بسهولة في غيابه، كي لا تتعطل التمرينات اليومية".

يتابع: "ثم كانت مدرستي حاضنتي الثانية التي شجعتني ورعتني ويسّرت لي أجهزة الصوت اللازمة للعروض وتجهيزات المسرح بمعداته، ونظّمت أنشطة موسيقية لتتيح لي ولأقراني من طلاب الموسيقى اعتلاء المسرح المدرسي لتقديم فننا أمام جمهور زملائنا ومعلمينا".

لم يكن غريباً أن تكون مدينة الناصرة راعية لموهبة ابنها تيسير إلياس. تاريخ المدينة مع الثقافة والفنون، ولا سيما الغناء والموسيقى، يقطع بأنها لا يمكن أن تتجاهل موهبة استثنائية متمثلة في صبي قرّر أن يمنح سنوات اللهو واللعب إلى الدرس والتمرين.

موسيقى
التحديثات الحية

يوضح إلياس: "أتاحت لي المدينة فرصاً ما كنت لأحظى بها في مكان آخر: شاركت في كونسيرت من ألحان الموسيقي بليغ حمدي، عازفاً على العود مع الفرقة الماسية النصراوية، بقيادة أستاذي كميل شجراوي، الذي دعاني للعزف المنفرد، ولي من العمر 15 عاماً فقط، بمرافقة الفرقة الموسيقية عازفاً وحيداً على العود.. كانت الناصرة هي المنطلق، ولقد عرض البرنامج نفسه على مسارح أخرى في مدن مختلفة، كما دعيت لأشارك في نشاطات موسيقية نظمت في المدن الكبرى، مثل (مهرجان العود في القدس)، مع مجموعة من الشباب الموسيقي الصاعد، وحصدت الجائزة الأولى متفوقاً على 25 عازفاً. كذلك، حصلت أخيراً على منحة الامتياز في الموسيقى العربية".

كان لتجربة تيسير إلياس في العزف مع الفرقة الماسية النصراوية الفضل الأكبر في ترسيخ قدميه على المسرح المحلي عازفاً محترفاً يركن إليه ليتحمل الدور الأساسي مع فرقة قوامها 30 عازفاً، فمن هناك انطلق إلى عروض محلية مشابهة بعدما أصبح يشار إليه باعتباره عازفاً مميّزاً على آلته. هذه المكانة المحلية فتحت الطريق إلى مشاركة مهمة في مهرجان جرش الدولي بالأردن في دورته الثامنة والثلاثين، التي اختتمت في الثالث من أغسطس/آب الحالي.

يحكي إلياس القصة: "من دون أن أدري، كان الفنان اللبناني مارسيل خليفة يواكب تطوري مذ عزفت (لونغا مرسيل) في مسابقة العود قبل سنوات، التي أهلتني للمركز الأول على 25 متسابقاً من كل الفئات العمرية. تابع خليفة تطوري من خلال تسجيلات كنت أرفعها على منصات التواصل الاجتماعي، وضمر أن يدعوني لأعزف مع فرقته عندما أبلغ العمر الذي لحّن فيه اللونغا، فتصادف ذلك مع موعد مهرجان جرش، إذ دعاني إلى فرقته عازفاً على العود على مدار برنامج الأمسية، ولعزف (لونغا مرسيل) منفرداً على المسرح المفتوح. ليلة الحفل، أعلن خليفة من على منصة المهرجان، عن انطلاق موهبة جديدة على العود وسمّاني باسمي ومنحني علامة عشرين على عشرين. في منتصف الحفل، قدمني مارسيل إلى الجمهور لأعزف مقطوعته (لونغا مرسيل).. كانت أهم ليلة في حياتي".

المساهمون