"باربي" في زمن النسوية: قوة موضوع لا أسلوب

"باربي" في زمن النسوية: قوة موضوع لا أسلوب

11 اغسطس 2023
مارغو روبي وراين غوزلينغ يُروّجان لـ"باربي" القرن الـ21 (WireImage)
+ الخط -

باربي أيقونة أيديولوجيا الجسد. دمية جميلة ورشيقة ومثالية، لم تشخ بعد 64 عاماً على "ولادتها". باربي تستطيع فَعل كلّ شيءٍ، كما في فيلم "باربي" (2023) لغريتا غِرويغ. يأتيها الطعام بسلاسة. كان سقراط نجم العصور القديمة بكلامه، وصارت باربي نجمة العصر الحديث بجسدها الرشيق، وشعرها الأشقر، وعينيها الزرقاوين. حتى إنّ الروائية الأميركية توني موريسن حلمتْ بـ"أكثر العيون زرقة"، وكتبتها.

باربي المثالية مصدر إلهامٍ تُقلّده الفتيات، وهذا ليس سهلاً. تريد النساء أنْ تكنّ جميلات ومحبوبات، للتنافس معها. النتيجة؟ لم تعد الفتاة تثق بنفسها، إلا بعد وضع قنطارٍ من الماكياج. كي تُطابق الفتاةُ باربي، يجب ألا تحبل، حبّاً برشاقتها. يجب ألا تتزوّج، حبّاً بحريتها. لذا، تؤجّل الزواج إلى أنْ يمرّ القطار.

مقاربة باربي اجتماعياً تجعلها مؤثّرة جداً في تمثّلات الفتيات لواقعهنّ ومستقبلهنّ.

"باربي" كوميديا غنائية، تعرض حياة وردية ورائعة في علبة بلاستيكية فانتاستيكية، تقرّر مغادرتها لتكتشف الواقع. نتيجة الدرس الأول: كيف تنظر النساء إلى المرأة ذات القدم المفلطحة كسمك موسى، التي لا تشبه قدم باربي؟ قدّمت غِرويغ الجواب بالصُوَر، لتثبت موهبتها. اذهبوا لتشاهدوا ذلك. لن تقوله الكلمات. هناك، ستكتشفون الجواب، وكيف استخدمت المخرجة التناص بإفراط مع أفلام شهيرة، للتأكيد أنّها سينيفيلية. بدأت بمشهد فتيات يحطمن دُماهنّ بمجرّد ظهور باربي، منتصبةً كمسلّة فرعونية. هذا يحيل إلى مشهد القردة التي تحطّم العظام حول المسلّة، وتكتشف سلاحاً، في "2001: أوديسة الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك.

هناك تناص آخر، حين تقفز باربي فتنفتح التنورة، كما في لقطة مارلين مونرو فوق نفق القطار (The Seven Year Itch لبيلي وايلدر، 1955). حذاء وحيد فوق الرمل، ينتظر الأمير الذي سيلتقطه ليُلبسه لساندريلا، في أفلامٍ كثيرة. الأهمّ لقطة من "العرّاب" (1972) لفرنسيس فورد كوبولا، الوصي الذي يُقدّس الرجولة. تفضّل باربي ونصيراتها النسويات رجالاً يلبسون الوردي، ولا يمارسون الوصاية. للسخرية من العرّاب (مارلون براندو)، طلبت غِرويغ من راين غوزلينغ أنْ يقدّم أداء بهلوانياً، طَمَس مواهبه الظاهرة في أفلامٍ سابقة له.

بعد هذا الاستعراض السينفيلي، عادت غِرويغ إلى البساطة التي تجلب جمهوراً واسعاً. هذا يُفسّر أنّ مداخيل "باربي" ضعف مداخيل "أوبنهايمر" (2023) لكريستوفر نولان. الأرقام لا تكذّب، وستجبر السينفيليين على مراجعة معاييرهم. اعتمدت غرويغ على سينوغرافيا أحادية اللون. عالم أحادي اللون، والاتجاه جلب كثيرات إلى قاعة سينما على كورنيش كازابلانكا. معدّل أعمار الجمهور 16 عاماً، وربعه فتيات حالمات، أعمارهنّ 14 عاماً.

لا تولد الفتيات جميعهنّ بعيون زرقاء. لذا، تبيع لهنّ الشركات عدسات ملوّنة. تعيش الشابات مشاعر متناقضة تجاه باربي. يُعجبن بشكلها، ويَحْضُننها في الصغر. وحين يكتشفن، بعد الـ14 من العمر، أنهنّ لا يشبهنها، يكرهنها، ويتمنّيَن إدخال تعديل على عيونهن. هذا روته كاتبة لا تشبه باربي، لكنّها تتجاوزها (توني موريسن في "أكثر العيون زرقة"). الألوان أقوى من الكلمات.

جمع "باربي" بين بهجة الشكل وعمق الموضوع. تكمن قوّته في موضوعه، لا في أسلوبه. في الموضوع، تحلم كلّ باربي أنْ يتزوّجها ربّان طائرة. حلم شائع لدى الفتيات. تتعرّف الطفلات المغربيات على دمية باربي منذ الصغر، لأنها تباع في كلّ محلات الألعاب في العالم، وتشكّل تمثّلاتهن عنه. من هنا، ينبع العمق الاجتماعي لفيلمٍ له صدى كبير في المجتمع والسوق والفن.

 

 

تخرج باربي من العلبة البلاستيكية الفنتاستيكية. تشتبك مع أسئلة اللحظة التاريخية، التي تحاول فيها الحركة النسوية تحقيق مكاسب عملية، بعد أنْ حقّقت ثورة في مواقع التواصل الاجتماعي. تتحقّق قفزة من عالم المُثل إلى الواقع. لهذا تبعات فرضت على المخرجة استخدام شرح كثير في النصف الثاني من الفيلم، لفهم ما تريده باربي: تريد أنْ تكون حقيقية، ولها شخصية، لا مجرّد دمية كليشيه تابعة لوصي. تحلم بحبّ حقيقي، فتغادر العالم المثالي الذي فيه يأتيها الطعام، وطعامها افتراضي. في الواقع، الطعام ليس افتراضياً. إنّه نقطة ضعف الحركة النسوية في مجتمعاتٍ، يدفع الرجال فيها ثمن الطعام. كتب كارل ماركس: "تاريخ البشرية تاريخ البحث عن الطعام". من هنا، جاءت وصاية الرجال.

لتصفية الحساب مع هذا الوضع، يظهر كين (غوزلينغ) بقبعة راعي بقر بهلوان. نادرات هنّ النساء في أفلام الوسترن. كين يضع ثوباً وردياً حول عنقه. في الأداء سخرية من فرو العرّاب، وتشجيع على نقد الرجولة، والركوب عليها، كما في الملصق. سخرية من عرّاب أهبل، غيَّر طبيعة الصراع بين الصين وأميركا. فبينما يكاد ينفجر قتال بين صيني وأميركي، حُوِّل التنافس إلى مسابقة في الرقص. هذا أقلّ دموية.

تجارياً، الدمية البلاستيكية الفنتاستيكية صناعة شركةٍ يديرها الرجال، وتتاجر بأحلام النساء، وتدجنهنّ ليتلاءمن مع ذوقهم. نجح المشروع. اليوم، كلّ فتاة تريد أن تصير باربي. باربي امرأة مثالية بالنسبة إلى الرجال. لهذا، تقاتل النساء لتصبحن مثلها، حتى لو كان بعضهنّ نسويات. نزلت باربي إلى الحياة اليومية، فصُدمت من شروط الحياة الفعلية للنساء. لم تكن هناك امرأة في الشركة المُصنِّعة للدمية.

فنياً، الفيلم أحادي اللون، وجدليّ الموضوع. تغادر البطلة النسوية علبتها البلاستيكية المثالية إلى الواقع، في أقوى لحظات الحركة النسوية. في زمن كثر فيه الرجال الذين يلبسون الوردي من دون خجل. لن يقبل العرّاب (الرجل البطريركي، Patriarche) هذا. بالنسبة إليه، باربي التي لا تعجن ولا تطبخ، لا تلائمه. في النسق الديني للعرّاب، "النفقة مقابل الطاعة". تتجاهل النسويات هذه القاعدة، ما يسبّب لهنّ خللاً أيديولوجياً يتجاهل الاقتصاد. تطالب النسويات بالمساواة في البرلمان، وبالمَهر والنفقة وتعويض المتعة في المحاكم.

تمشي باربي في الشارع، وتكتشف الواقع. تدفع خطاب الحركة النسوية إلى حدوده، حين تكتشف الواقع الاقتصادي. في مجتمع كالمجتمع المغربي، الذي تملك فيه النساء 5 بالمائة من الثروة، تبقى باربي تابعة. الفيزياء الاجتماعية غاية في الصلابة.

 

(*) بين 21 يوليو/ تموز و8 أغسطس/ آب 2023، بلغت إيرادات العروض التجارية الدولية لـ"باربي" ملياراً و42 مليوناً و685 ألفاً و725 دولاراً أميركياً، بحسب "موجو بوكس أوفيس" (موقع إلكتروني أميركي مختصّ بأرقام الصناعة السينمائية)، في مقابل ميزانية إنتاجية بلغت 145 مليون دولار أميركي، بحسب nytimes.com، في 11 يوليو/ تموز 2023.

المساهمون