"عن مساحة الكارثة والتغيير": انفجارٌ يستدعي ذاكرة حروب متواصلة

"عن مساحة الكارثة والتغيير": انفجارٌ يستدعي ذاكرة حروب متواصلة

09 اغسطس 2021
بيروت: ذاكرة راهن وحروبٍ (فرانس برس)
+ الخط -

 

في تقديم برنامجٍ سينمائي جديد، يتضمّن 5 أفلام وثائقية قصيرة مُنتجة بعنوان "بيروت... آب 2021" (للبرنامج عنوان آخر باللغة الإنكليزية: "بيروت، بعد مرور عامٍ واحد")، تعرضها المنصّة اللبنانية "أفلامنا" (aflamuna.online) لغاية 23 أغسطس/ آب 2021، كتب السينمائيّ اللبناني باسم فيّاض مقالة طويلة بعنوان "عن مساحة الكارثة والتعبير".

لكونها تطرح أسئلة أساسية عن الكارثة والسينما والتاريخ والصورة، تنشر "العربي الجديد" مقتطفاتٍ منها، لعلّ المقتطفات تُحرِّض على قراءتها، وتُثير مزيداً من نقاشٍ مطلوب وضروري، رغم الآلام والخيبات والانهيارات.

 

سنة مضت على انفجار مرفأ بيروت. 15 سنة على حرب تمّوز الاسرائيليّة على لبنان. 18 سنة على سقوط بغداد بأيدي الأميركيين. 40 سنة تقريباً على اجتياح إسرائيل لبيروت. 54 سنة على ما اصطلحنا على تسميته بالنكسة، و73 سنة على ما أطلقنا عليه اسم النكبة. وهكذا دواليك، حتى سقوط بغداد على أيدي المغول، منذ 736 سنة.

إذْ ننظر في تاريخنا، نجده سلسلةً متواصلة من الكوارث، التي قد لا تترك مجالاً لسكّان هذا الجزء من العالم للتنفّس. هذا تاريخٌ من الانهيارات، التي تركت حتماً آثاراً كبرى في ذاكرتنا الجمعيّة، وصاغت ـ بحكم الطبيعة والفيزياء والبيولوجيا ـ طريقة تفكيرنا وتفاعلنا العاطفيّ مع كلّ المحفّزات الخارجيّة، التي تتلقّاها حواسّنا، أو تلك الداخلية، التي تنتجها عقولنا. نحن اليوم، شئنا أم أبينا، نتاج هذا التراكم المدهش من الكوارث، التي لا نكاد نخرج من كارثة، حتى ندخل في أخرى (...).

السؤال البديهي، الذي يطرح نفسه هنا: هل استجابة صنّاع الأفلام التي تناولت انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس/ آب مثلاً، استجابة منفصلة عن كلّ ما حلّ بنا من كوارث، قبل تاريخ الانفجار المشؤوم؟ هل يُمكن فصلها عن حرب تموز مثلاً، أو الحرب الأهلية اللبنانية؟ هل يُمكن فصل استجابة صنّاع الأفلام التي تناولت حرب تمّوز عن كارثة سقوط بغداد قبل أعوام؟ إلخ. (نزعم أنّ أيّ بحث جديّ يتناول كامل الأفلام العربية، التي تناولت كارثة من كوارثنا، لا بدّ أنْ يصل إلى نتائج مدهشة. وربما يجد قواسم مشتركة كبرى بين هذه الأفلام، التي ربما تشير إلى لغة مشتركة. نقول ربما، لأن بحثاً كهذا لم يحصل حتى اللحظة).

لا بدّ من أخذ كلّ ما ورد أعلاه بعين الاعتبار، عند مُشاهدة مجموع هذه الأفلام، وعند طرح السؤال الذي انطلقت منه هذه البرمجة، أي: كيف نصوّر الكارثة؟ نعتقد أنّ هذه البرمجة تشكّل نقطة انطلاق لأيّ باحث، يرغب يوماً في خوض هذا الغمار. انفجار الرابع من أغسطس/ آب، في مرفأ بيروت، الذي أعلن صراحة انهيار لبنان، وحرب يوليو/ تموز الاسرائيليّة على لبنان، التي حاولت أنْ تبني على فكرة الفوضى البنّاءة، وسقوط بغداد المدوّي، الذي أسّس لهذه الفوضى، بالإضافة طبعاً إلى النكبة الكبرى في فلسطين، التي أطلقت مرحلة جديدة وطويلة من الاستعمار، هذه كلّها عناوين أساسيّة لبرمجة الأفلام لشهر أغسطس/ آب. هذه فرصة للتأمّل في كيفية تعامل الإبداع العربي مع الكارثة.

كيف نفهم الكارثة؟ كيف نتناولها؟ كيف نصوّر آثارها في النفوس؟ إنّها فرصة لطرح بعض الأسئلة، وربما، نقول ربما، للبحث عن أيّ أمل في شفاءٍ، يُمكن أن يفتح باب التفكير والبناء (...).

 

 

يستدعي انفجار المرفأ كمّاً ضخماً من ذاكرة الحروب المتواصلة، ويحيلنا إلى آخر حربٍ مُدمّرة شهدناها، أي حرب يوليو/ تموز 2006، ومنها إلى سلسلة حروبنا الأهلية الداخليّة. أمامنا أفلام حاولت تناول الكارثة عند وقوعها وبعده. لا بدّ لنا من التذكير بأنّ طبيعة ذاكرة الصدمة فوضوية. وصلاتنا العصبيّة، المصنوعة من تراكم الخوف والموت والظلام، لا تميّز بين مُسبّبات حرب وأخرى، سواء كانت حرباً وجوديّة مع الخارج، أم اقتتالاً داخليّاً عبثياً، لا تميّز بين مجزرة وأخرى، ولا بين انفجار سيارة مُفخّخة وانفجار كميّة من النيترات. كلّ هذه الكوارث، على اختلافها، تشكّل مُحفّزات واحدة، تغذّي وصلاتنا العصبية المعنية بالموضوع، وتبقيها حيّة فاعلة.

رائحة الموت المنبعثة من تحت ركام حرب يوليو/ تموز، هي نفسها الرائحة المنبعثة من اقتتالنا الداخليّ. يتعامل دماغنا معها كرائحة واحدة. كلّ صور وأصوات اليوم تستدعي صور وأصوات الأمس، وذاكرة قرون من الحروب، إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الصّدمة العابرة للأجيال. لا تختلف أفلام حرب يوليو/ تموز عن أفلام انفجار المرفأ كثيراً. الفرق الوحيد يكمن في القدرة على توقّع الكارثة، وفي توقّع الكارثة تخفيف ولو بسيط لوطأتها (...).

عند مشاهدة الأفلام، يُلاحَظ مشترك ثابت بينها: فعل الحبّ. بعضه واضح تماماً، وبعضه مستبطن في تفاصيلها، لكنّه موجود بإصرار. لا يُمكن مواجهة الفراغ والتشظي إلا بذاك الشعور الغريب، العصيّ على التفسير، الذي يقف ثابتاً ودائماً خارج اللغة: الحبّ. ربما لأنّ اللغة تعجز أمامه تماماً، كعجزها أمام الكارثة، أو لكونه بطبيعته خارج أيّ شكل. يشبه التشظي، ويقف على نقيضه في الآن عينه. يشبه الفراغ، لكنّه الوحيد القادر على ملئه.

هكذا نجد أنّ أفلام هذه البرمجة انطلقت من الكارثة إلى الحب، لأنّها وجدت فيه ـ بفعل طبيعة الإنسان المتحرّرة من مادية الدماغ، أي تلك الطبيعة الروحيّة ـ قدرةً سحريّة على ملء الفراغ الناتج عن الكارثة. لذا، نقول إنّ الكارثة لم تقدر علينا بعد، رغم ضخامتها، لأنّنا مجبولون بالحب، ومصنوعون منه. هكذا نقرأ هذه الأفلام، رغم أنف المقاربة العلميّة لتفكيك وفهم آثار الكارثة.

المساهمون